شهدت الأشهر القليلة الماضية اهتماماً مصرياً لافتاً ومتزايداً بتطورات الأزمة اليمنية. وشكَّلت الدعوة التي وجهتها القاهرة لرئيس الوزراء اليمني لزيارتها ومراسم استقبالها له في يوليو الماضي، ولقاء السفير المصري غير المقيم لدى اليمن برئيس المجلس الانتقالي الجنوبي في نوفمبر2020، أهم التطورات والتحركات الديبلوماسية المصرية على هذا الصعيد، والتي اعتبرها مراقبون مؤشرات على رغبة مصر في لعب دور أكبر في اليمن، وتعزيز حضورها جنوبي البحر الأحمر، لكبح واحتواء المخاوف والتهديدات المتزايدة على أمنها القومي، لاسيما تلك الناجمة عن تزايد التدخُّل التركي في اليمن ومياهه الإقليمية.
وهذه الورقة تستقصي مؤشرات تزايُد الانخراط المصري في المشهد اليمني مؤخراً، وتُحلِّل دلالاته، وتحاول استشراف الآفاق المستقبلية لهذا الدور خلال المديين القريب والمتوسط.
المؤشرات
يمكن عرض أبرز التَّطورات والتَّحركات المصرية اللافتة مؤخراً، والتي تعتبر مؤشراً على تزايد اهتمام القاهرة بالشأن اليمني وتطوراته، على النحو الآتي:
الدَّلالات
يعكس تكثيف القاهرة لاتصالاتها مع حكومة الرئيس هادي المعترف بها دولياً مؤخراً، توجُّهاً لديها لرفع وتيرة انخراطها وتعزيز حضورها في المشهد اليمني، بما يُعزز دورها القيادي ومكانتها في المنطقة، وذلك لما يمثله اليمن بالنسبة لها من عمق استراتيجي وقضية أمن قومي، ومجال نفوذ حيوي.
وتأتي التحركات الدبلوماسية المصرية في اليمن، مدفوعة بالهاجس الأمني لحماية الممرات البحرية في باب المندب وكبح تنامي نفوذ القوى الإقليمية المنافسة كتركيا وإيران في عمقها الاستراتيجي، لاسيما أنها باتت في الآونة الأخيرة بالفعل تخشى من تدخُّل تركي مباشر أو عبر ذراع الإخوان المسلمين في اليمن (حزب الإصلاح) والذي من شأنه فتح جبهة ثالثة لها في باب المندب إلى جانب ليبيا وأثيوبيا، وخاصة بعد ظهور العديد من المؤشرات على انخراط وتدخل تركي متزايد في الشأن اليمني وأهمها إنشاء وتمويل معسكرات لحلفائها في حزب الإصلاح في محافظة تعز المُطلَّة على البحر الأحمر، فضلاً عن تحرُّكات أنقرة لتعزيز حضورها في البحر الأحمر وخليج عدن، والتي كان أبرزها تَوَلِّيها قيادة قوَّات المهام المشتركة (CTF-151) لمكافحة القرصنة في خليج عدن وقبالة سواحل الصومال في المحيط الهندي، في الفترة بين 25 يونيو وحتى 10 ديسمبر 2020. فضلاً عن إعلانها في 25 يناير 2021 تمديد وجود عناصر قواتها الجوية والبحرية في خليج عدن والمياه الإقليمية الصومالية وبحر العرب والمناطق المجاورة لمدة عام آخر.
ويُشير لقاء السفير المصري برئيس المجلس الانتقالي في مقر إقامة الأخير بالرياض، (والذي تأخَّر مقارنةً بلقاءات عديدة لسفراء الدول الراعية للسلام في اليمن)، إلى رغبة القاهرة في الاقتراب المؤثِّر من هذا المكوِّن الذي تمكَّن من فرض نفسه كطرفٍ فاعل في جنوب البلاد. ففي حين أن هذا اللقاء قد يكون تركَّز في مُجمله حول الدَّفع باتجاه تشكيل الحكومة الجديدة دعمًا لجهود التَّحالف العربي لتنفيذ اتِّفاق الرياض، وفي سياق تنسيق الجهود لكبح التهديدات المتصاعدة من ذراعي إيران وتركيا على الأمن القومي العربي وأمن البحر الأحمر؛ وبرغم أن القاهرة لا تزال تتحفَّظ بشأن دعوة المجلس الانتقالي للانفصال عن شمال اليمن؛ إلا أن الخطوة برأي مراقبين تُعتبر دليل تزايُد قناعتها بأهمية التعاون معه، نظراً للأهداف والمصالح والتهديدات المشتركة، والمتمثِّلة في حماية باب المندب وخليج عدن وخطوط الملاحة البحرية، فضلاً عن موقفهما المشترك من جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي، وخصوصاً الإخوان المسلمين.
وضمن مساعيها لتفعيل دورها وتنشيط حضورها يمنياً، تسعى مصر لتعزيز علاقتها بحلفائها وتوسيع دائرة أصدقائها المحليين، وتحرص على التأكيد على كونها حليفاً موثوقاً. وعلى سبيل المثال، تُشير الشَّواهد المتوافرة إلى أن القاهرة دفعت ولا تزال تدفع في اتِّجاه صعود بعض الشخصيات والإبقاء على مناصبهم في السلطة الشرعية، وأبرزهم معين عبد الملك الذي بقي في موقعهِ رئيساً للحكومة المشكَّلة مؤخراً، وقبله رئيس مجلس النواب سلطان البركاني، وهما شخصيتان يجمعهما ونظام الرئيس السيسي رفض تنامي نفوذ تركيا وحلفائها في حزب الإصلاح.
وبرغم الإشارات الإيجابية التي أظهرتها السعودية تجاه تحسين العلاقة مع تركيا في قمة العشرين ولاحقاً عبر المصالحة مع قطر، لا يوجد في تحرُّكات القاهرة الأخيرة ما يُوحي بأي تعارُض في المواقف مع الرياض في الملف اليمني. على العكس من ذلك، بدا المزيد من التَّناغُم والتَّنسيق، ولاسيما فيما يتعلق بإضعاف نفوذ حزب الإصلاح في اليمن، حيث أكَّد رئيس الوزراء اليمني في حديث له مع صحيفة "الأهرام" المصرية أن حكومته "لن تقبل بوجود مجاميع مسلحة خارج مؤسسات الدولة، ولن تقبل بنشاط مجاميع ترتبط بأجندات غير وطنية"، وكان رئيس الوزراء المصري، أكثر صراحةً، حين أعلن خلال مؤتمر صحفي مشترك مع عبدالملك، رفض مصر أي تدخُّل "غير عربي" في الشؤون اليمنية، في إشارة واضحة لتركيا، لاسيما أن هذه التصريحات تزامنت مع تزايُد الأخبار عن قيام قيادات تابعة لحزب الإصلاح بالتَّحشيد في تعز وتشكيل فصائل مسلحة بدعم تركي وتمويل قطَري، وتزايُد دعوات إخوان اليمن لتركيا بالتَّدخل العسكري في الحرب اليمنية.
ومع الأخذ بعين الاعتبار أن تنفيذ اتفاق الرياض (كمقاربة تتبناها القاهرة أيضاً) من شأنه أن يُقلِّص تغلغُل إخوان اليمن في حكومة الشرعية ويُوفِّر حلاً مرحلياً لصراع الأفرقاء المناوئين لجماعة الحوثي ويُوحِّد جهودهم للحرب ضدّها، وبالإشارة إلى كون اللقاء الذي جمع عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي بالسفير المصري لدى السعودية وغير المقيم لدى اليمن، أعقبه مباشرة لقاء جمع الأخير بالسفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، وعُقب أيامٍ من تصنيف "هيئة كبار العلماء" السعودية لجماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية؛ يمكن استنتاج أن السفير المصري قد يكون حثَّ الانتقالي على تقديم تسهيلات و/أو تنازلات فيما يتعلق بتنفيذ الشِّقَّين العسكري والأمني، للدَّفع والتَّعجيل بإعلان الحكومة الجديدة برئاسة معين عبدالملك، وبهدف تحقيق اختراق في ملف الأزمة اليمنية قبل انتهاء العام 2020، وإِنْ من قبيل رأب تصدُّعات جبهة الشرعية، لمواجهة مخاطر تنامي حزب الإصلاح والحوثيين في اليمن وقطع الطريق أمام التَّحرُّكات التركية والإيرانية المزعزعة للأمن القومي العربي.
آفاق الدور المصري في اليمن
في ضوء ما سبق، يمكن استشراف مستقبل الانخراط المصري في الأزمة اليمنية واستكشاف آفاقه الممكنة بإيجاز على النحو الآتي:
مركز الإمارات للسياسات | 17 فبراير 2021
مركز الإمارات للسياسات | 11 فبراير 2021
محمد فايز فرحات | 07 فبراير 2021