ازدادت الأوضاع الداخلية في بيلاروسيا اضطراباً منذ الإعلان عن فوز الرئيس الحالي ألكسندر لوكاشينكو (65 عاماً) بولاية سادسة في الانتخابات الرئاسية في 11 أغسطس الماضي؛ إذ تبع ذلك الإعلان احتجاجات غاضبة جابت شوارع العاصمة مينسك، وانتقل صداها إلى عدة مدن أخرى، رافضةً نتائج الانتخابات، التي وصفتها بالمزوَّرة، وطالب المُحتجُّون الرئيس لوكاشينكو بالرحيل عن السلطة وإنهاء حكمه السلطوي لبيلاروسيا.
السياق الداخلي للأزمة
أُجريت الانتخابات الرئاسية البيلاروسية في سياق سياسي غير ديمقراطي، وشهدت مساعي للتضييق على المنافسين منذ بدايتها حتى إعلان النتائج وما لحقها من احتجاجات، وقد انعكس ذلك في عدة أمور:
في هذا المناخ السياسي، أُجريت الانتخابات الرئاسية التي حصد فيها لوكاشينكو 80.23% من الأصوات، فيما حصلت منافسته الأهم "تيخانوفسكايا" على 9.9% من الأصوات، وقد اتهمت تيخنوفسكيا الرئيس لوكاشينكو بتزوير نتائج الانتخابات لصالحه، وسرعان ما هربت من البلاد إلى ليتوانيا في أعقاب إعلان النتائج النهائية خوفاً من تعرُّضها للاعتقال، مما قاد إلى سلسلة من المظاهرات المنتظمة المطالبة برحيل لوكاشينكو، وعلى إثرها قُتِلَ بعض المتظاهرين واعتقل الآلاف حتى الآن. وقد دفع اتساع رقعة المظاهرات وزيادة حدتها إلى تهديد لوكاشينكو باستخدام الجيش للدفاع عن سلطته.
وبرغم المواجهة الشُرَطَية العنيفة للمتظاهرين إلا أنه يتم تنظيم مظاهرات كل أحد بالآلاف في العاصمة مينسك، فضلاً عن احتجاجات يومية أصغر حجماً في عدة مدن بخلاف العاصمة لتعبِّر عن استمرار الرفض للوكاشينكو وعدم التراجع عن مطلب إسقاط النظام، بل إن هناك دعوات بين المتظاهرين لتصعيد الأمور ومواصلة الضغط على النظام البيلاروسي، بالامتناع عن دفع الضرائب مثلاً.
دوافع الاحتجاجات
لم تكن الانتخابات الرئاسية الأخيرة هي السبب الرئيس للاحتجاجات ضد نظام لوكاشينكو بقدر ما كانت كاشفة - كما يقول بعض المراقبين - عن مثالب نظام حكمه، وعجزه عن تحقيق طموحات مواطني بلاده في حياة أفضل، ومعبِّرة في الوقت ذاته عن ضيق هؤلاء مما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بيلاروسيا. لذلك اشترك معظم فئات الشعب البيلاروسي في هذه المظاهرات، بداية من الطلاب وحتى الطبقة الوسطى الذين قبلوا لسنوات طويلة القيود المفروضة على دكتاتورية لوكاشينكو مقابل خدمات عامة لائقة وحياة مريحة بمعايير أوروبا الشرقية.
وقد حفَّزت هذه الاضطرابات مجموعة من الأسباب؛ منها ما هو متراكم منذ سنوات، ومنها نتج عن أزمات ناشئة مثل تفشي وباء "كوفيد-19"؛ وتتمثل أبرز هذه الدوافع:
التفاعل الدولي
حظيت التطورات السياسية الأخيرة في بيلاروسيا باهتمام عالمي ملحوظ، لذا يمكن رصد التفاعل الدولي في اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول، داعم للمظاهرات السلمية ورافض للتجاوزات التي حدثت في الانتخابات الرئاسية. ويقود هذا الاتجاه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اللذين قاما بما يأتي:
أما الاتجاه الثاني، فتدعم فيه روسيا بقوة حليفها الرئيس البيلاروسي؛ وتعتمد على استراتيجية سياسية ذات عنصرين، هما:
سيناريوهات محتملة
من واقع التطورات على أرض الواقع، من غير المحتمل أن يتراجع المتظاهرون عن مطالبهم برحيل لوكاشينكو، وفي المقابل لا يُبدي الأخير استعداداً للتخلي عن السلطة. إلا أن الموقف في بيلاروسيا يزداد تعقيداً مع تزايد حالة الاستقطاب من الخارج والداخل، واستقالة بعض الموالين للرئيس سواء في الإعلام أو السلك الدبلوماسي، حيث استقال سفيران حتى الآن. ويضع هذا الوضع بيلاروسيا أمام عدة سيناريوهات مُمكِنَة:
السيناريو الأول: استقالة الرئيس لوكاشينكو من منصبه بشكل طوعي استجابة لضغط المتظاهرين وتشكيل حكومة جديدة ومن ثم انتخابات جديدة، على أن يتم تشكيل مجلس لإدارة الدولة يضم رموزاً من المعارضة لحين تعديل الدستور وإجراء الانتخابات. ولن يحدث ذلك السيناريو إلا باتفاق مُسبق مع جميع الأطراف الفاعلة وفي مقدمتها روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والرئيس لوكاشينكو نفسه.
السيناريو الثاني: انحياز الجيش والشرطة للمتظاهرين والتدخل لإزاحة الرئيس من منصبه بالقوة، وفى هذه الحالة سيتم تشكيل حكومة جديدة وإجراء انتخابات جديدة أيضاً بشكل مشابه للسيناريو الأوكراني. ويُهدد هذا السيناريو احتمال تدخل روسيا لإنقاذ لوكاشينكو إذا رفضت قوات الأمن تنفيذ أوامره.
السيناريو الثالث: قَمْع الحراك الاحتجاجي وبقاء الرئيس لوكاشينكو فى السلطة بمساعدة روسية، وفى هذه الحالة سيظل لوكاشينكو أسيراً لموسكو التي ربما تفرض عليه اتفاقاً اتحادياً أو شبه اتحادي، ليتحوَّل حينها من رئيس دولة مستقلة ذات سيادة إلى أشبه بحاكم إقليم داخل روسيا، كما أنه سيبقى محاصراً في الوقت ذاته من الاتحاد الأوروبى، ويعتمد بشكل أكبر على المساعدات الروسية.
خلاصة
من غير المرجح أن يتم تنفيذ أي سيناريو من السيناريوهات السابقة بمعزل عن مصالح الأطراف الخارجية الفاعلة في الأزمة، خصوصاً روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لكن إزاحة لوكاشينكو من منصبه يعد أكثر الاحتمالات ترجيحاُ في الفترة المقبلة، بيد أن هذا السيناريو لن يتحقق إلا بتنسيق مسبق وواضح مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لن يسمح مطلقاً بتكرار السيناريو الأوكراني في بيلاروسيا، فضلاً عن تخوفه من احتمالية انتشار عدوى مينسك إلى دول أخرى مثل طاجيكستان وتركمنستان وكازاخستان، بل وروسيا نفسها. وتجدر الإشارة هنا أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يتواصلان بشكل مستمر مع الرئيس بوتين لاحتواء الأزمة، وإيجاد مخرج مناسب لها دون الإضرار بمصالح أي طرف، وهذا يعني أن سيناريو خروج لوكاشينكو من السلطة يظل الأقرب للتحقق.
من ناحية أخرى، فبرغم ما يبدو عليه لوكاشينكو من صلابة ظاهرية وإصرار على الاحتفاظ بمنصبه، إلا أنه فى واقع الأمر يتفاوض حول مستقبله مع المحيطين به، وبعض اللاعبين من الخارج، وفقاً لبعض المحللين. ومن ثمَّ، يظل مصير بيلاروسيا السياسي مرهوناً بالتطورات على أرض الواقع، وما قد تؤول إليه اتفاقات الفاعلين الخارجيين، وحدود الضغط الذي يمكن ممارسته على لوكاشينكو من جانب روسيا.
أحمد عسكر | 13 يناير 2021
سمير رمزي | 03 يناير 2021
شريف أبو الفضل | 29 ديسمبر 2020