تأتي مبادرة حل الأزمة الليبية التي أعلنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة في 6 يونيو 2020، بحضور المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي والمستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي، في سياق يتسم بدرجة عالية من الكثافة في الأحداث، سواء على مستوى التطورات الميدانية للصراع، أو على مستوى التعاطي الدولي مع التطورات، الذي يُعد الأكثر زخماً منذ مؤتمر برلين المنعقد في يناير 2020. ولا يحمل "إعلان القاهرة" طرحاً جديداً مقارنة بالطروحات المتداولة أو المدعومة دولياً بشأن التسوية السلمية للصراع، ويمكن القول إن الإعلان يستمد أهميته مما يعكسه بخصوص التعامل المصري مع التوازنات الجديدة الراهنة على الساحة الليبية.
تسعى الورقة الحالية إلى استعراض هذه التوازنات الجديدة من وجهة نظر القاهرة، واستكشاف ملامح التجاوب المصري مع هذه التحولات وفق ما أظهره إعلان القاهرة، ثم يتم استعراض المحددات والحسابات الحاكمة لمواقف الأطراف الدولية الفاعلة، ومن ثمّ التطرق إلى أبرز سيناريوهات التسوية السلمية أو التصعيد العسكري انطلاقاً من هذا الإعلان.
توازنات ما قبل الإعلان
شهدت التوازنات بين الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع الليبي عدداً من التحولات منذ بدء حرب طرابلس في أبريل 2019، ويمكن إيراد أبرز ملامح هذه التحولات، وصولاً إلى لحظة إطلاق إعلان القاهرة، وذلك على النحو التالي:
ملامح التجاوب المصري
في ضوء التحولات المشار إليها، وخريطة التوازنات الدولية في ليبيا خلال المرحلة الراهنة، يمثل "إعلان القاهرة" استجابة مرحلية لهذه التطورات، على مستوى المسارين السلمي والعسكري على حدٍ سواء. ويمكن القول بأن التوجه المصري، وفق ما يظهر في نص المبادرة وسياق إعلانها، يتسم بثلاثة ملامح رئيسة:
في هذا السياق ثمة العديد من الاعتبارات التي تدفع القاهرة نحو إعادة التوازن في العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية في شرق ليبيا، لصالح دور أكبر للمستشار عقيلة صالح، بما يكسر نمط انفراد حفتر بقيادة هذا المعسكر، على النحو الذي كان سائداً خلال السنوات الماضية. ويمكن الإشارة تحديداً إلى نقطتين محددتين:
يلتقي التوجه المصري الجديد مع توجه دولي يهدف إلى استئناف مسار المباحثات مرة أخرى؛ حيث أعلنت البعثة الأممية عن التحضير لاستئناف مباحثات وقف إطلاق النار على المسار العسكري للجنة 5 + 5؛ كما يمثل إعلان القاهرة إعادة تقديم للمبادرة التي كان قد تبناها المستشار عقيلة صالح، والتي دعمتها موسكو خلال شهر مايو؛ وأخيراً يأتي موقف السفارة الأمريكية في ليبيا، الذي أشار صراحة إلى ضرورة إتاحة المجال لـ "الأصوات السياسية" في شرق ليبيا.
من ثمّ يمكن القول بأن إعلان القاهرة يسعى في جانب منه إلى مواكبة الحراك الدولي الراهن لاستئناف المسار السياسي، وتأطير هذا الحراك عبر طرح مبادرة لا تختلف كثيراً عن مخرجات برلين، التي حظيت بتوافق دولي وشرعية أممية عبر اعتمادها في مجلس الأمن. كما أن الإعلان يمثل إعادة تقديم لمبادرة المستشار صالح، والمدعومة من موسكو بالأساس.
ومع ذلك، فإن هذا التماهي مع التوجه الدولي يظل غير كافٍ، في ظل وجود حسابات خاصة بكل طرف من الأطراف الأكثر تأثيراً في المشهد الصراعي الراهن، مما يحمل بدوره تحديات بشأن فرص نجاح الإعلان كمدخل لتحقيق تسوية سلمية للصراع خلال المرحلة المقبلة.
حسابات أطراف الصراع
من المهم في هذا السياق استعراض المحددات والحسابات الحاكمة لمواقف الأطراف الرئيسة للصراع:
1. الولايات المتحدة
يُعد كبح الدور العسكري الروسي المتنامي في ليبيا المحددَّ الحاكم للموقف الأمريكي خلال المرحلة الراهنة، وهو ما يظهر في البيان الهجومي الذي أصدرته القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا "أفريكوم" في الأسبوع الأخير من مايو، بشأن نقل الطائرات المقاتلة الروسية إلى ليبيا، والدور الذي تضطلع به مجموعة "فاغنر" خلال العمليات القتالية. على صعيد آخر تسعى الولايات المتحدة إلى تجنب حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بين اثنين من حلفائها الإقليميين، مصر وتركيا.
يتطلب تحقيق الهدفين العمل على تخفيض حدة الصراع، بما يعني تغليب الأدوات السياسية على الأدوات العسكرية، وهو ما يجعل الولايات المتحدة أحد الأطراف التي تميل إلى دعم التحرك المصري، وإلْزام تركيا بوقف العمليات العسكرية باتجاه الشرق الليبي. والنقطة الإشكالية هنا بشأن الموقف الأمريكي تتعلق بالمدى الذي ستسمح به لتركيا قبل حدوث تدخل أمريكي جاد لفرض وقف إطلاق النار، وتحديداً فيما يتعلق بالسيطرة على كلٍّ من مدينة سرت وقاعدة الجفرة وسط البلاد.
من ناحية أخرى، يؤدي إصرار تركيا على السيطرة على المدينة والقاعدة إلى خدمة التوجه الأمريكي الرافض للوجود الروسي في الجفرة، التي تعد القاعدة الرئيسة لاستئناف أي هجوم على غرب أو جنوب البلاد؛ فضلاً عن إبعاد روسيا عن مناطق تمركز حلفائها الأقرب من أنصار النظام السابق. لكنْ من ناحية أخرى، فإن إصرار أنقرة على السيطرة على الهدفين سوف يتم مواجهته بدور أكبر لمقاتلي فاغنر والطائرات الروسية، بما قد يفضي إلى احتمال فشل قوات الوفاق المدعومة من تركيا، ولكن أيضاً زيادة النفوذ الروسي شرق ليبيا.
وبالفعل شهدت الأيام التي أعقبت صدور إعلان القاهرة مشاركة من قبل عناصر فاغنر في العمليات القتالية حول سرت، وكذلك مشاركة من طائرات ميج 29 التي نقلتها روسيا إلى قاعدة الجفرة في الأسبوع الأخير من شهر مايو.
2. روسيا
يمكن القول بأن التوجه الروسي خلال المرحلة الحالية يهدف إلى تحقيق هدفين رئيسين: الأول هو تثبيت الوجود الروسي في ليبيا، عبر دفع قوات حفتر نحو زيادة الطلب على دور روسي أكبر، تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها تركيا وحلفاؤها، ومن ثمّ تحقيق الهدف الثاني المتمثل بإعادة هيكلة الجيش الليبي من خلال إدماج أنصار النظام السابق بشكل تدريجي ضمن المؤسسة العسكرية التابعة للقيادة العامة.
يتقاطع الموقف الروسي مع التوجه المصري على المدى القصير في السعي نحو تعزيز دور القيادة السياسية لإقليم برقة ممثلةً بعقيلة صالح، للاستفادة من الغطاء الدولي لمجلس النواب بطبرق في شرعنة أي خطوات جديدة. وهنا يمكن الإشارة إلى أن التأثير في قرار صالح سيكون أحد مجالات التنافس المصري-الروسي خلال المرحلة المقبلة، وهو ما تسعى القاهرة إلى تجنُّبه عبر رفع مستوى التنسيق مع موسكو.
على صعيد آخر، فإن إدماج القيادات العسكرية الموالية للنظام السابق داخل الجيش الوطني الليبي قد يمثل أحد مجالات التنسيق بين القاهرة وموسكو خلال المرحلة المقبلة. وهنا قد تستفيد موسكو من زيادة الضغوط العسكرية التي تمثلها تركيا على قوات حفتر، في حالة إصرار تركيا على نقل المواجهات إلى ما بعد سرت (ويتوقف ذلك على وجود ضوء أخضر أمريكي)، لتثبيت دور روسيا في حماية الإقليم، وبما يدفع حفتر وداعميه نحو مزيد من الامتثال للرؤية الروسية بشأن إدارة الصراع وإعادة هيكلة القوات المسلحة.
3. تركيا
كما هو متوقع، أتى الموقف التركي، ومن ثم موقف حكومة الوفاق، رافضاً للمبادرة المصرية، مع الإصرار على الاستمرار في العمليات العسكرية الهادفة للسيطرة على مدينة سرت.
تسعى تركيا إلى تحقيق هدفين مزدوجين باستمرار التقدم باتجاه الشرق: الأول هو السيطرة على ورقة الهلال النفطي، أو على الأقل حرمان حفتر وداعميه من هذه الورقة من خلال نقل المواجهات العسكرية إلى شرق البلاد؛ والهدف الثاني هو الضغط أمنياً وسياسياً على النظام المصري، عبر إثارة المزيد من الاضطرابات الأمنية شرق ليبيا. وعلى هذا النحو فإن مصفوفة الخيارات التركية تميل إلى استمرار التقدم باتجاه الشرق؛ غير أنه في حالة وجود ضغوط أمريكية جادة لمنع هذا المسار التصعيدي التركي، فإن الحد الأدنى من الأهداف العسكرية يتمثل في استمرار المحاولة لانتزاع السيطرة على مدينة سرت على الأقل.
تشير التطورات الميدانية الخاصة بمعركة سرت حتى اللحظة إلى عجز قوات الوفاق المدعومة من تركيا عن تحقيق أي تقدم، وتكبّد هذه القوات خسائر كبيرة في القوة البشرية والعتاد العسكري، مما أجبر أنقرة، ومن ثم حكومة الوفاق، على القبول بالمشاركة في المباحثات العسكرية لوقف إطلاق النار، وفق ما أعلنت عنه البعثة الأممية بتاريخ 10 يونيو.
أخيراً، فإن الموقف التركي من إعلان القاهرة لا ينفصل عن حسابات التصعيد العسكري بين تركيا ومصر في حوض المتوسط بشأن التنقيب عن الغاز، في ظل شروع الشركات التركية بالفعل في اتخاذ خطوات عملية في هذا الجانب، بالتزامن مع استخدام قطع بحرية تركية في قصف قوات حفتر قبالة الساحل الليبي؛ غير أن الحسابات التركية الخاصة بهذا الجانب تصطدم بالتطور الجديد المرتبط بالإعلان في 9 يونيو عن تعيين جديد للحدود البحرية بين اليونان وإيطاليا.
4. الاتحاد الأوروبي
على الرغم من تضرر الاتحاد الأوروبي من تنامي الدورَين التركي والروسي خلال المرحلة الماضية، إلا أن الموقف الأوروبي لا يزال يفتقر إلى متطلبات القيام بدور فاعل خلال المرحلة الحالية من الصراع، ليس فقط على خلفية الانشغال الأوروبي في أزمة كورونا، ولكن أيضاً بسبب استمرار الانقسام الإيطالي-الفرنسي الذي يحد من فاعلية الاتحاد. ومع ذلك تظل المصلحة الأوروبية المشتركة هي العمل على استغلال الحراك الراهن في شراء الوقت، والانخراط في مسارات التسوية، وإرجاء الموجة التالية من التصعيد، إلى حين انتهاء الأزمات الأكثر إلحاحاً الناتجة عن فيروس كورونا، وانتظاراً كذلك لانتهاء الانتخابات الأمريكية واتضاح بوصلة الإدارة الأمريكية المقبلة إزاء الصراع الليبي.
في هذا الإطار أتت المواقف الأوروبية على اختلافها مؤيدة لإعلان القاهرة، مع وجود تفاوت في صيغة التأييد؛ حيث أبدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حماسها الشديد لاستئناف التسوية وفق ما تقرر في مؤتمر برلين. ومن جانبها أعلنت فرنسا تأييدها الصريح للإعلان؛ كما أن باريس كانت صريحة في تبني مواقف رافضة من التدخل التركي والروسي، حيث أعلن وزير خارجيتها جان إيف لودريان نهاية مايو الماضي عن مخاوف بلاده من "سَورنة" ليبيا، فضلاً عن التواصل على المستوى الرئاسي بين الرئيسين الأمريكي والفرنسي بشأن ليبيا. وأخيراً تحليق الطائرات الرافال الفرنسية فوق سرت خلال محاولات تركيا السيطرة عليها. وفي المقابل اكتفت روما ببيان تقليدي بشأن دعم الحلول السياسية؛ مع عدم تبنِّي أي مواقف رافضة للتدخل التركي في ليبيا. وأتى الموقف الإيطالي الأكثر أهمية في تصديه للدور والمصالح التركية من خلال اتفاقية تعيين المناطق الاقتصادية الخالصة بين البلدين؛ وهو التطور الذي أعقبه بساعات تحرُّك ميليشيات من مدينة زوارة (بإيعاز تركي على الأغلب) نحو مجمع مليتة النفطي، في محاولة لوقف ضخ الغاز إلى إيطاليا.
السيناريوهات المحتملة
تتوقف السيناريوهات المستقبلية على كيفية التفاعل بين المحددات والحسابات الخاصة بمختلف الأطراف. وعلى هذا الأساس يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات محتملة خلال المرحلة المقبلة:
السيناريو الأول: نجاح جزئي واستئناف القتال؛ في هذا السيناريو يحدث نجاح محدود في تنفيذ إعلان القاهرة، وتحديداً في الشق المتعلق بمباحثات وقف إطلاق النار، وكذلك استئناف المسار المالي والاقتصادي للمباحثات. وخلال هذا السيناريو سيتم تجميد الأوضاع العسكرية لفترة قد تمتد حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في أقصى تقدير، حيث سيتم استئناف القتال مرة أخرى على نطاق واسع أكثر حدة من السابق.
وخلال فترة تجميد العمليات العسكرية يظل الخطر الأكبر لعدم الاستقرار مرتبطاً بديناميات الصراع المصري-التركي، سواء في محاولة تركيا إثارة فوضى أمنية بالقرب من الحدود المصرية لاعتبارات سياسية، أو على خلفية النزاع بشأن غاز المتوسط.
وفي حالة التزام أطراف المعسكرين بالخطوط الفاصلة وخريطة الانتشار العسكري بين شرق البلاد وغربها، ستكون المناطق الأكثر عُرضة للاضطرابات والتصعيد المتقطع خلال فترة تجميد العمليات العسكرية هي مناطق الجنوب، سواء في محيط حقليّ الشرارة والفيل، أو في سَبْها، أو في أقصى الجنوب. ومن المرجح كذلك أن تنشط العمليات الإرهابية الموجهة ضد المناطق الموالية لحفتر في الجنوب والشرق.
السيناريو الثاني: نجاح المبادرة في تحقيق أهدافها؛ يتمثل السيناريو في حشد الدعم الدولي الكافي لإلزام جميع الأطراف بالتسوية السلمية للصراع وفق المسارات الثلاثة للمباحثات، وتحت رعاية الأمم المتحدة.
يتوقف السيناريو بشكل رئيس على توافر الإرادة الكافية لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، مع قبول الأطراف الأوروبية بالتوصل إلى صيغة توافقية لتسوية الصراع، مدفوعين في ذلك بحالة الإنهاك الاقتصادي التي تسببت فيها أزمة كورونا، وحاجة تلك الدول إلى إنعاش اقتصاداتها بعقود إعادة الإعمار في ليبيا، والرغبة في قطع الطريق على هيمنة موسكو وأنقرة على الصراع في حالة استمرار حالة العسكرة القائمة في إدارة الصراع.
وتظل فرص هذا السيناريو في التحقق ضعيفة بشكل كبير، لاعتبارات تتعلق بالصراع الليبي نفسه، أو الحسابات الخاصة بالتشابكات بينه وبين ملفات أخرى، وفق رؤية الأطراف الإقليمية والدولية الأكثر تأثيراً في ليبيا.
السيناريو الثالث: فشل المبادرة وعودة المواجهات العسكرية، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً؛ وفق هذا السيناريو لن يشهد الملف الليبي أي تقدم من خلال استئناف المباحثات، حيث ستتجاوب تركيا مع الضغوط الدولية بشكل مؤقت، لكن سرعان ما تعاود مساعيها للسيطرة على الهلال النفطي، ونقل ساحات المواجهة إلى المنطقة الشرقية. ومن بين العوامل الإضافية التي قد تحفز هذا السيناريو هي الرغبة في استمرار القتال لمنع التناقضات الداخلية بين الأطراف المحلية الداعمة للوفاق من الانفجار؛ سواء في العلاقة بين المدن وبعضها، أو بين قادة الميليشيات المسلحة.
وفي حالة تحقق هذا السيناريو فليس من المرجح أن تستمر المواجهات العسكرية داخل حدود برقة لفترة طويلة، حيث ستنتقل مرة أخرى إلى المنطقة الغربية.
أحمد عسكر | 13 يناير 2021
سمير رمزي | 03 يناير 2021
شريف أبو الفضل | 29 ديسمبر 2020