باتت أوروبا البؤرة العالمية لوباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) منذ بداية شهر أبريل الماضي، ورغم الارتفاع المتسارع في حالات الإصابات والوفيات خلال شهري فبراير ومارس في إيطاليا التي كانت أول الدول الأوروبية وأكثرها تضرراً بالوباء بل وتسجيل إيطاليا أعلى نسبة إصابات في العالم آنذاك، إلا أن استجابة الاتحاد الأوروبي اتَّسمت بالبطء الشديد، وبدت مؤسسات الاتحاد باديء الأمر غير مدركة لحجم الخطر الذي يتهدد الدول الأعضاء به، ووصفت الاستجابة الأولية للاتحاد بالارتباك مما عرضه لانتقادات شديدة من الدول الأكثر تضرراً مثل إيطاليا واسبانيا، وحذَّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من انهيار الاتحاد الأوروبي كمشروع سياسي في حال لم يتخذ الاتحاد خطوات جدية في دعم اقتصادات الدول المنكوبة.
وبينما منعت ألمانيا في البداية تصدير أي معدات طبية خارج حدودها بما في ذلك إلى دول الاتحاد واستولت جمهورية التشيك على شحنة من معدات الحماية الطبية المصدرة من الصين إلى إيطاليا، سارعت الدول الأوروبية إلى إغلاق حدودها المحلية بما اعتبر تقويضاً لمبادئ أساسية قام عليها الاتحاد مثل حرية الحركة للبضائع والأفراد، ورغم وجود سند قانوني استندت عليه الدول الأوروبية لاتخاذ هذا الإجراء، إلا أنها تعرضت للانتقاد الحاد لقيامها بذلك بسبب أن قراراتها اتخذت بصورة فردية وحمائية دون وجود لأدنى تنسيق أو تشاور مع الاتحاد ومؤسساته؛ وفي ظل كل هذا التشقق في جدار الوحدة الأوروبية، كان الجيش الروسي ينقل إلى إيطاليا المعدات الطبية، شأنه في ذلك شأن الطائرات الصينية التي هبطت في إيطاليا حاملة شحن المساعدات العاجلة من تلك المعدات، ووصول وفود الأطباء الكوبيين الذين سارعوا لتلبية الاستغاثة الإيطالية التي لم تلق استجابة أوروبياً آنذاك.
الاستجابة الأولية للاتحاد الأوروبي
رغم اعتراف الاتحاد الأوروبي بالخطأ في التعامل مع الحالة الإيطالية وتقديم اعتذار رسمي من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن "خذلان" الاتحاد الأوروبي لإيطاليا، إلا أن الاتحاد لم يتوصل إلى الاتفاق على خطة الدعم الاقتصادي لمواجهة أزمة كورونا إلا في العاشر من أبريل الماضي برغم أن بداية ذلك الشهر شهدت وصول كل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا إلى ذروة معدل الإصابات اليومية فيها.
ولم يتوصل الاتحاد الأوروبي إلى خطة الدعم الاقتصادي هذه، والتي تقدر بحوالي 7 إلى 8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد، إلا بعد عشرات المناقشات التي رأى مراقبون أنها أضاعت وقتاً ثميناً على الدول المتضررة لتلافي مزيد من الأضرار التي تعرضت لها اقتصاداتها.
وتمثلت الخلافات حول خطة الدعم الاقتصادي بدايةً حول ما يعرف باسم "سندات الكورونا"، وهي عبارة عن آلية للضمان المشترك من قبل دول الاتحاد لسندات الدين التي قد تحتاج إلى اصدارها الحكومات المتضررة اقتصادياً من الأزمة، وهو ما يعرف بالديون المتبادلة بين دول منطقة اليورو، حيث رفضت ألمانيا وهولندا ودول أخرى في شمال أوروبا في البداية مطالبات إيطالية وإسبانية وبرتغالية بالسماح لها بالاقتراض عبر إصدار سندات كورونا، ويُعزى هذا الخلاف إلى:
يمكن تقسيم تعثُّر استجابة الاتحاد الأوروبي الأولية لمواجهة أزمة كورونا إلى ثلاثة مستويات:
المستوى المالي النقدي: حيث لا يزال الاتحاد الأوروبي يعاني من عدم وجود سياسة نقدية موحدة؛ فمنطقة اليورو نفسها أنشئت على أسس ضعيفة بسبب الفشل في إنشاء اتحاد مالي يؤسس لسياسة نقدية واحدة، وبسبب الوسائل غير الكفؤة في إدارة الأزمات، إضافة إلى الاستهانة بمعايير الانضمام إلى العملة الموحدة. وأدت هذه المشاكل البنيوية والفنية إلى حلول غير فعالة وغير مكتملة في أزمات مالية سابقة واجهها الاتحاد مثل الأزمة المالية العالمية 2007-2008، وأزمة الديون السيادية 2011-2012.
وقد انعكس عدم وجود آليات وسياسات نقدية واضحة على سبل معالجة الصدمات الاقتصادية الناتجة عن أزمة كورونا في الدول الأوروبية، مما أنتج مزيجاً غير مستقر من الاجراءات المتضاربة في بعض الأحيان بين مؤسسات الاتحاد وبين حكومات الدول الأعضاء. فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي يسعى البنك المركزي الأوروبي لتثبيت سوق الديون الأوروبية، لم تلتزم الدول الأكثر تضرراً اقتصادياً واستمرت في إصدار ديونها الخاصة كإجراءات عاجلة قصيرة الأمد وكحلول سريعة لمواجهة الضغوط المتزايدة عليها.
المستوى المؤسساتي: يواجه الاتحاد الأوروبي منذ نشأته مشكلة في آليات اتخاذ قراراته والجدل القائم حول اتخاذ القرارات الحاسمة بالأغلبية أم بالإجماع، ورغم توسع صلاحيات مؤسسات الاتحاد الأوروبي في اعتماد آلية اتخاذ القرارات بالأغلبية بدلاً من الإجماع، إلا أن الصدام بين التكنوقراط داخل مؤسسات الاتحاد وبين السياسيين من حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد برز بشكل واضح خلال أزمة الديون السيادية في 2011-2012، وعاد للظهور بنفس القوة خلال مناقشة سبل مواجهة الاتحاد لأزمة وباء كورونا؛ فالاتحاد ومؤسساته ومسؤولوه لديهم آليات تُمكِّنهم من اتخاذ قرارات بموجب السلطة الممنوحة إليهم من الدول الأعضاء في هذه الدول، لكن هذه الآليات نفسها تحتاج إلى موافقة الدول الأعضاء حتى تصبح فعالة.
المستوى السياسي: خلال الأزمة الحالية بدا واضحاً أن الدول الأعضاء ترددت بين إظهار التضامن مع الوحدة الأوروبية وبين الضغوط السياسية الداخلية التي تواجهها بسبب المواقف المختلفة لشعوبها من أزمة كورونا خلال الأشهر الثلاث الأولى على الأقل من الأزمة، حيث نتجت هذه المواقف المتباينة بسبب الآثار المتباينة للأزمة على المستويين الصحي والاقتصادي لهذه الدول، والتي تفاقمت داخلها الضغوط السياسية، على خلفية موجة الشعبوية والتشكيك بالاتحاد الأوروبي التي تقودها جماعات وأحزاب اليمين المتطرف التي شهدت السنوات الخمس الأخيرة تنامي تأثيرها في أوروبا.
الخطة الأوروبية الحالية لمواجهة أزمة وباء كورونا المستجد
تضمنت خطة الاتحاد الأوروبي للاستجابة لأزمة وباء كورونا المستجد العناصر الأساسية التالية:
أ) الحد من انتشار الفيروس، وشمل ذلك:
ب) ضمان توفير المعدات الطبية، ويشمل ذلك:
ج) خطة شبكة الأمان الأوروبية المالية بـ 540 مليار يورو لدعم الاقتصاد وقطاع الأعمال ومكافحة البطالة:
تخصص الخطة المالية حزم دعم للدول الأعضاء في الاتحاد والشركات والعمالة الأوروبية، وقد أقرت مجموعة اليورو خطة شبكة الأمان وأيدها قادة دول الاتحاد الأوروبي، ويشمل ذلك:
د) تخصيص الدعم المالي للبحث العلمي، ويشمل ذلك:
هـ) مساعدة مواطني الاتحاد الأوروبي العالقين في الخارج.
و) مكافحة نشر المعلومات الخاطئة حول الوباء.
الآثار المتوقعة لأزمة وباء كورونا على مستقبل الاتحاد الأوروبي
تمثل جائحة فيروس كورونا المستجد اختباراً حقيقياً لمفهوم الاتحاد الأوروبي كتكتل دولي وأكبر اتحاد اقتصادي من نوعه في العالم، ومع ارتباك المشهد الأوروبي والآثار الشديدة الناجمة عن الأزمة، والتي أدت إلى خسارات بشرية واقتصادية فادحة للغاية في دول الاتحاد، ظهرت عدة توقعات بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي من أبرزها:
السيناريو الأول: انهيار الاتحاد وتفككه تدريجياً
قد تساهم الخسائر التي خلفتها الأزمة وتأخر الاتحاد الأوروبي في الاستجابة التي كانت مأمولة منه في إذكاء دعوات الانفصال عنه، خاصة بعد أن تلقى الاتحاد ضربة عنيفة - رغم أنه استطاع لغاية الآن امتصاص آثارها - بانفصال بريطانيا عنه أو ما يعرف بالبريكست، إلا أن ما برز خلال أزمة كورونا من مسارعة الدول إلى الاجراءات الحمائية دون التفكير في التنسيق الأوروبي كأولوية، وتمسُّك مؤسسات الاتحاد والدول الفاعلة فيه بالبيروقراطية الإجرائية التي عرقلت الاستجابة لاستغاثات الدول الأشد تضرراً، وما كشفته الأزمة أيضاً عن وجود خلل عميق في آليات الاستجابة السريعة وإدارة الأزمات في الاتحاد، إضافة إلى الضغوط المتزايدة من المجموعات المتشككة في جدوى الاتحاد وأحزاب اليمين المتطرف؛ جميعها عوامل قد تؤدي إلى بلورة الدعوات المحلية في بعض الدول الأعضاء لإجراء استفتاءات للانفصال عن الاتحاد، وفي حال نجحت إحدى هذه الدول بذلك - إيطاليا على سبيل المثال - فمن المتوقع أن يؤدي خروج دولة ثانية من الاتحاد بعد بريطانيا إلى ضربة شديدة لعملة اليورو الموحدة وإلى زعزعة أكبر في الثقة بالاتحاد، وهو ما قد يؤدي إلى تفككه تدريجياً في نهاية المطاف.
السيناريو الثاني: تماسك الاتحاد الأوروبي واستفادته من الأزمة لتقوية حضوره
تسهم أزمة كورونا في إدراك أنه لا يمكن لأي دولة أن تواجه الأزمات عابرة الحدود بمفردها، وقد أظهرت هذه الأزمة مدى حاجة أقوى الاقتصادات العالمية والإقليمية إلى نوع من أنواع التعاون الدولي. وقد تمثل أزمة كورونا فرصة حقيقية للاتحاد الأوروبي لاقناع المتشككين فيه بضرورة وجوده كمظلة آمنة في مثل هذه الأزمات، إلا أن ذلك يعتمد على عدة عوامل من بينها:
السيناريو الثالث: المعالجة الآنية للأزمة واستمرار التعثُّر والتصحيح في الاستجابة
ويعتبر السيناريو الأكثر ترجيحاً، ويتمثل في استمرار اعتماد الاتحاد الأوروبي على تشريعاته وآلياته المؤسساتية الحالية، واستغراق وقت أطول لابتكار حلول وآليات مختلفة والارتكان أكثر إلى الحلول المُجرَّبة، مع اجراء إصلاحات تدريجية بحسب الدروس المستفادة من الأزمة لتصحيح الخطط والمسار، غير أن هذا السيناريو سيعتمد بشكل كبير على القناعات السياسية للدول الأعضاء بجدوى الاتحاد، ومن المتوقع أن تعتمد هذه القناعات بصورة مباشرة على خطة الانعاش والخروج من الأزمة أكثر من اعتمادها على خطة الاستجابة لها، فمن المتوقع أن لا تثير الدول المتضررة من أزمة كورونا مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي في حال قُدِّمت لها خطة انعاش اقتصادي مُجدية تحقق مصلحتها في ذلك، إذ تدرك هذه الدول أنها لن تستطيع مواجهة آثار الأزمة بعد انتهائها بمفردها.
وتبقى تداعيات أزمة كورونا على مستقبل الاتحاد الأوروبي مرهونة أيضاً بتطورات أزمة الوباء نفسه، من حيث احتمالية تعرُّض القارة والعالم بأسره لموجات جديدة من الوباء أو اكتشاف علاج أو لقاح يتمكَّن من إنهاء حالة الارتباك التي يشهدها العالم نتيجة هذه الأزمة، وإعادة الحياة إلى طبيعتها، كما سيبقى الاقتصاد الأوروبي أيضاً متأثراً بالمنحى الذي سيأخذه الاقتصاد العالمي بعد انتهاء الأزمة.
أحمد عسكر | 13 يناير 2021
سمير رمزي | 03 يناير 2021
شريف أبو الفضل | 29 ديسمبر 2020