عادت مشاورات تشكيل الحكومة العراقية إلى المربع الأول، بعدما أعلن رئيس الوزراء المكلَّف محمد توفيق علاوي اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة في الأول من مارس الجاري، بسبب تعنّت الكتل السياسية التي الْتقت مصالحها الذاتية في عدم السماح بتمرير كابينته الوزارية من خلال تعطيل النِّصاب القانوني لجلسة منح الثقة لحكومته. وعقب يوم واحد من إعلان علاوي الاعتذار هدد رئيسُ حكومة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي بلجوئه إلى "الغياب الطوعي" ليزيد الأزمة تعقيداً، فيما لا تزال الكتل السياسية غيرة متفقة على مرشح يمكن أن يملأ الفراغ السياسي الحاصل ويُرضي الشارع الغاضب.
أسباب فشل محمد علاوي
يبدو أن مهمة تشكيل الحكومة الانتقالية كانت أكبر من محمد توفيق علاوي، الذي فشل في التعامل مع تعقيدات المشهد السياسي العرق-طائفي، وصُنْع ثغرة في جدار التضامن السياسي للأحزاب وآليات عملها المستمرة منذ 16 عاماً والتي تستمد ديناميتها من أعراف المحاصصة السياسية، إلى جانب عجزه عن كسب ود المتظاهرين واستثمار حراكهم الذي دخل شهره السادس في الضغط على مراكز القوى ودفعها إلى تقديم تنازلات تتناسب مع خطورة المرحلة، لا بل ساهمت ادعاءاته المتكررة بكونه مرشحَ ساحات الاعتصام إلى سخطهم وبعثت بإشارات غير مطمئنة عن نزاهته السياسية، واستعداده للكذب والمراوغة من أجل الحفاظ على منصبه، فضلاً عن تنامي مجموعة من الأسباب الأخرى، أبرزها:
استمرار عبد المهدي والجدل القانوني
ما إنْ طُوي ملفُّ علاوي بعد اعتذاره لرئيس الجمهورية برهم صالح عن المهمة مطلع الشهر الجاري، حتى جاء الدورُ لرئيس حكومة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي الذي بعث برسالة إلى رئيسَي الجمهورية والبرلمان تضمنت تهديداً باللجوء إلى "الغياب الطوعي" إنْ لم تتمكن القوى السياسية من إيجاد بديل له. ويتفق خبراء في القانون العراقي على عدم وجود مصطلح "الغياب الطوعي" لا في القانون ولا في الدستور ولا حتى في النظام الداخلي لمجلس الوزراء، لكنْ ثمة اختلاف بين القوى السياسية بشأن الموقف من بقاء عبد المهدي بالسلطة، كالآتي:
ونتيجة لذلك فإن العراق يشهد فوضىً سياسية وقانونية، حيث لا يوجد نص في الدستور العراقي يشير إلى كيفية التعاطي مع مثل هذه الأزمة، لأن المادة (76) الفقرة الخامسة من الدستور تشير إلى أن "يتولى رئيس الجمهورية تكليفَ مرشح آخر بتشكيل الوزارة، خلال خمسة عشر يوماً"، غير أن هذا الأمر يعتمد على استمرار عادل عبد المهدي في رئاسة حكومة تصريف الأعمال، أما إذا تخلى عن المنصب فإن الدستور يشير إلى العودة إلى المادة (81) التي تنص على أن "يقوم رئيس الجمهورية مقامَ رئيس مجلس الوزراء، عند خلو المنصب لأي سببٍ كان"؛ ما يعني أن رئيس الجمهورية يمكنه شغل منصب رئيس الوزراء في مدة لا تتجاوز الـ 45 يوماً، وأن هذه المادة تعتبر الملاذ الأخير إن لم يتمكن رئيس الجمهورية من تكليف مرشح خلالها.
الأسماء المرشحة لخلافة عبد المهدي
أسفرت اللقاءات والمشاورات التي يُجريها قادة الكتل السياسية برعاية رئيس الجمهورية برهم صالح منذ عدة أيام، عن تقدم في ملف الاتفاق على شكل الحكومة الانتقالية (لمدة عام واحد)، بحيث يكون لها صلاحية إجراء الانتخابات المبكرة وتمرير الموازنة المالية لعام 2020 التي لاتزال قيد الإعداد، فضلاً عن إيجاد آلية للتفاوض مع المتظاهرين، والاستجابة لعدد من مطالبهم الآنية.
لكنْ لا تزال الخلافات قائمة على صعيد الأسماء؛ إذ تدور في الأروقة السياسية مجموعة أسماء من بينها المستشار السياسي لزعيم التيار الصدري علي الشكري، والنائب عن ائتلاف "النصر" محافظ النجف السابق عدنان الزرفي، ورئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي، ومحافظ البصرة أسعد العيداني المحسوب على "المؤتمر الوطني العراقي"، ووزير التعليم قصي السهيل عن ائتلاف "دولة القانون". وإلى جانب هذه الأسماء كان السياسي العراقي والخبير الاقتصادي مازن عبد المهدي الأشيقر قد أعلن عن تقدمه بطلب لرئيس الجمهورية لتكليفه للمرحلة القادمة باعتباره سياسياً مستقلاً ويلبي الشروط المطلوبة.
ويبدو أن ثمة دفع باتجاه رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي، وهو مستقل لا ينتمي لحزب أو تكتل سياسي، ويمتلك علاقات جيدة بمعظم القوى السياسية، فضلاً عن كونه الوحيد الذي لم ترفضه ساحات التظاهر لغاية الآن. كما أن الصدر ليس لديه أي اعتراض على ترشيح الكاظمي، بل كان مؤيداً لذلك حتى قبل اختيار علاوي، لكن تحفظات القوى السياسية الشيعية الأخرى حالَت دون ذلك، والملاحظ أن الكاظمي يمتلك علاقات جيدة بالقوى "السنية" و"الكردية"، الأمر الذي يمكنه من الحصول على ثقة البرلمان إذا ما تم تكليفه، لكن على الجانب الآخر تتحفظ الأحزاب الموالية لإيران في تحالف "الفتح" عليه، لاسيما أنه يمتلك معلومات وافية عن تحركات ميليشياتها، وهو ما أثار هجمةً منظمةً ضده، فقد هددت كتائب "حزب الله" بإحراق ما تبقى من أمن العراق إذا ما تم ترشيحه، مُتهمةً إياه بمساعدة "العدو الأمريكي لتنفيذ جريمة اغتيال قادة النصر". وعلى الجانب الآخر يُبدي ائتلاف "دولة القانون" حماسةً باتجاه تسمية محافظ البصرة أسعد العيداني، الأمر الذي تحدث عنه علناً النائب عن الائتلاف كاظم الصيادي، قائلاً "إن المرحلة تحتاج رئيسَ وزراء قوياً يمكنه المرور عبر البرلمان، وهذا ما ينطبق على العيداني".
والمثير في الأمر أن أسعد العيداني كان أحد المرشحين الفائزين في البرلمان العراقي خلال العام 2018 على قائمة تحالف "النصر" بقيادة حيدر العبادي قبل أن ينشق عنه ويُعلن التحاقَه بالتحالف المقرب من طهران، ويرفض تأدية اليمين الدستورية كنائب لرغبته في الاستمرار في مهام محافظ البصرة، مستفيداً من عدم وجود نص يلزم النائب بتأدية القسم الدستوري، وسبق أن تم طرح اسمه من قبل تحالف "البناء" غير أن رئيس الجمهورية آنذاك رفض تكليفه.
السيناريوهات المحتملة بشأن المرشَّح المستقبلي لرئاسة الحكومة
السيناريو الأول: اختيار شخصية لا تخرج عن التوافقات الحزبية. ويفترض هذا السيناريو أن يتم التوافق بين الكتل السياسية على اختيار شخصية (شيعية) تضمن مصالح الأحزاب السياسية الأخرى، مقابل تقديم كابينة حكومية من شخصيات تبدو وكأنها مستقلة في سبيل التمويه على الرأي العام. وثمة عدة أسباب تدعم هذا السيناريو، أبرزها:
السيناريو الثاني: استمرار الفراغ الدستوري فترة طويلة. يفترض هذا السيناريو أن تفشل القوى السياسية في التوصل إلى اتفاق على مرشح يُرضي الأطراف كافة، وبالتالي لا يبقى أمامهم سوى الذهاب إلى الخيار الدستوري في المادة (81) الذي يقضي بأن يُدير رئيس الجمهورية الحكومة لمدة 30 يوماً، وخلال هذه الفترة يمكن أن يتمكن الفرقاء من التوصل إلى خيار توافقي بين الكتل "الشيعية" و"السنية" و"الكردية"، مع احتمال أن لا تتمكن من تشكيل حكومة وفق السياقات الدستورية لنفس الأسباب التي افشلت تمرير حكومة علاوي، فضلاً عن أن تشكيلها يتعارض مع إجراء انتخابات مبكرة كما تريدها المرجعية الدينية في النجف والمتظاهرين، لأن الانتهاء منها لن يتحقق في أحسن الأحوال قبل نهاية الشهر الجاري؛ ما يعني صعوبة إجراء انتخابات قبل نهاية عام 2020 بسبب ضيق الوقت والمدة الزمنية المطلوبة لتقديم مشروع الموازنة، إلى جانب التفاصيل الفنية فيما يتعلق بموضوع الانتخابات. فضلاً عن احتمالية حدوث اضطرابات أمنية، من قبيل اغتيال شخصية مهمة أو تفشي مرض فيروس كورونا، والذهاب إلى تشكيل حكومة توافق وطني كالتي اعتاد العراق عليها منذ عام 2005، أو حصول تدخل خارجي يودي إلى تشكيل حكومة "إنقاذ وطني".
السيناريو الثالث: الإبقاء على رئيس الوزراء المستقيل أو إعادة تكليفه بتشكيل حكومة جديدة وفق الاستحقاق الانتخابي إلى حين إجراء انتخابات برلمانية. ويفترض هذا السيناريو أن يتم الابقاء على عادل عبد المهدي في منصبة مع إيجاد تكييف قانوني لتمرير الموازنة السنوية، وتهيئة الأجواء لانتخابات مبكرة. ويدعم هذا الفرض عدة اعتبارات، أبرزها:
غير أن هذا الخيار يمكن أن يتعارض مع رغبة المرجعية، التي أوصت البرلمان بإعادة النظر في خيارته في إشارة مبطنة إلى تشكيل حكومة جديدة، فضلاً عن المتظاهرين الذين أكدوا مسبقاً بأنهم سوف يصعّدون الموقف في حال الإبقاء على المتهم الأول في قتلهم، مع احتمال دخول زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على الخط لاستعادة نفوذه الشعبي الذي تآكل بشدة منذ اصطفافه إلى جانب طهران بعد مقتل قاسم سليماني، ومحاولته فرض ترشيح محمد توفيق علاوي على المتظاهرين بالعنف؛ ما يفتح الباب أمام انزلاق البلاد إلى حرب أهلية.
مركز الإمارات للسياسات | 02 مارس 2021
مركز الإمارات للسياسات | 28 فبراير 2021
مركز الإمارات للسياسات | 17 فبراير 2021