شكَّل التوقيعُ الرسمي على معاهدة السلام الإماراتية-الإسرائيلية في البيت الأبيض، في 15 سبتمبر 2020، "لحظةً تاريخيةً فارِقة"، بحسب وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي رعت إدارته الوصول إلى هذه المعاهدة. وسوف تبدأ وفقاً لذلك علاقاتٌ دبلوماسية كاملة بين أبوظبي وتل أبيب، وستنخرط وفود إماراتية وإسرائيلية مشتركة في توقيع اتفاقيات ثنائية في مجالات الاستثمار والسياحة والاتصالات والتكنولوجيا والطيران المدني والموانئ والرعاية الصحية والبيئة.
وهذه أول معاهدة سلام عربية مع إسرائيل برعاية أمريكية منذ زهاء 25 عاماً، أي منذ توقيع الأردن على معاهدة "وادي عَرَبَة" في 1994، وتُمثِّل تتويجاً لمسار طويل من التقارب بين الجانبين العربي والإسرائيلي، بدأ منذ إبرام اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين في 1993، وما تلاها من خطوات للتقارب بين الجانبين العربي والإسرائيلي، برزت أهم ملامحها في تبادل فتح دول خليجية مثل قطر وسلطنة عُمان مكاتب تجارية مع إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي، وفتح المملكة المغربية مع إسرائيل مكاتب اتصال متبادلة في كلٍّ من الرباط وتل أبيب في أواخر عام 1994، فضلاً عن توجُّه موريتانيا إلى تطبيع كامل للعلاقات الدبلوماسية مع الجانب الإسرائيلي وتبادل السفراء بين الدولتين في أواخر 1999، لكن هذا المسار التقاربي تعطَّل بفعل تعثُّر محادثات كامب ديفيد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي عام 2000 وما تلاه من تطورات.
الانعكاسات المتوقعة للمعاهدة على القضية الفلسطينية وعملية السلام
يمكن قراءة انعكاسات معاهدة السلام بين الجانبين الإماراتي والإسرائيلي وفقاً للمعطيات الآتية:
آفاق ما بعد المعاهدة: تشكُّل بيئة تعاونية واستراتيجية جديدة في المنطقة
وفق الكثير من الآراء، مثَّلت معاهدة السلام المبرمة بين دولة الإمارات وإسرائيل "تحولاً استراتيجياً" في مسار العلاقات العربية-الإسرائيلية. وتداعيات هذه المعاهدة سوف تتجاوز مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، لتشمل الواقع الاستراتيجي في إقليم الشرق الأوسط ككل. ويمكن الإشارة إلى أبرز الدلالات والتداعيات الاستراتيجية المتوقعة لهذه المعاهدة، على النحو الآتي:
1. صعود تيار "الاستقرار الإقليمي"
تمثل هذه المعاهدة انتصاراً لتيار موجود في إقليم الشرق الأوسط منذ فترة طويلة، يذهب إلى أن توسيع وتعميق حجم المعاملات بين أطراف الصراع العربي-الإسرائيلي يمثلان المدخل الأهم لتحقيق الاستقرار في الإقليم، وتراجع فرص الصدام بين أطرافه. ويستند هذا التيار إلى مقولات العديد من نظريات العلاقات الدولية، وعلى رأسها نظرية الاتصال لكارل دويتش، ومقولات النظريتين الوظيفية والوظيفية الجديدة. وجوهر هذه النظريات أنه كلما زاد حجم المعاملات بين الوحدات السياسية في إقليم ما زادت فرص بناء الثقة بين النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء النخب الرسمية أو غير الرسمية، وزادت أيضاً فُرَص تشكيل مصالح مشتركة بين هذه النخب، خاصة في مجال الاقتصاد السياسي، الأمر الذي يؤدي على المدى البعيد إلى تشكيل جماعات مؤيدة للاستقرار في علاقات الأطراف، ومن ثمَّ استقرار الإقليم بشكل عام.
كما يستند هذا التيار أيضاً إلى الخبرات التاريخية في بعض الأقاليم، وعلى رأسها إقليم جنوب شرقي آسيا الذي استطاع تحييد الصراعات والنزاعات الحدودية العديدة بين وحداته السياسية لمصلحة التركيز على قضايا التنمية والتعاون الاقتصادي، ما أدى في التحليل الأخير إلى خلق مصالح ضخمة مشتركة بين دول المنطقة، أسهمت في النهاية في تحجيم فرص الصراع العسكري وبناء تجارب تنموية ناجحة. وتوقيع معاهدة السلام بين الإمارات وإسرائيل سيُمثِّل فرصة مهمة لهذا التيار للدفاع عن مقولاته مرة أخرى، خاصة بالنظر إلى الثقل الاقتصادي لدولة الإمارات في المنطقة.
2. زيادة الارتباط بين الإقليم الخليجي و"مركز" الشرق الأوسط
من المتوقع أن تُسهِم هذه المعاهدة في تعميق الارتباط بين منطقة الخليج العربي وقلب إقليم الشرق الأوسط، الأمر الذي سيؤدي إلى تعميق التفاعل بين المكونات الفرعية المختلفة للإقليم. وتاريخياً، تمتعت منطقة الخليج العربي بدرجة من الخصوصية والابتعاد نسبياً عن صراعات "منطقة المركز"، وفي مقدمتها الصراع العربي-الإسرائيلي. وقد أسهمت عوامل عديدة في تكريس هذه الخصوصية، من بينها طبيعة الأنظمة السياسية والاقتصادية في منطقة الخليج، وتباين ترتيب أولوية التهديدات الرئيسة، حيث احتل التهديد الإيراني أولوية كبيرة بالنسبة لمنطقة الخليج العربي مقارنةً بأولوية أنماط أخرى من التهديدات في "منطقة المركز".
وسوف تساعد معاهدة السلام بين الإمارات وإسرائيل بلا شك في تعميق حالة الارتباط بين منطقة الخليج و"منطقة المركز" العربي/الشرق أوسطي، كنتيجة مباشرة لزيادة حجم التفاعل والمعاملات السياسية والاقتصادية بين طرفي المعاهدة؛ وتزداد فرص هذا التحول في حالة التحاق دول أخرى في منطقة الخليج بهذا الاتجاه، لاسيما بعد انضمام مملكة البحرين إلى قاطرة السلام. ومع أن هناك معاملات تاريخية ضخمة بين دولة الإمارات وعدد من دول "المركز" (بعضها كان طرفاً مباشراً في الصراع العربي-الإسرائيلي)، إلا أن التدشين لمرحلة من التفاعل الكثيف بين الإمارات وإسرائيل سيُعمِّق بلا شك من حجم التفاعل والارتباط الخليجي مع منطقة المركز لعوامل تتعلق بخصوصية إسرائيل، باعتبارها طرفاً رئيساً في الصراع العربي-الإسرائيلي، فضلاً عما تفتحه هذه المعاهدة من آفاق للتعاون السياسي والأمني بين الجانبين، الأمر الذي سيُعطي قضية الأمن الإقليمي بشكل عام، والصراع العربي-الإسرائيلي والقضية الفلسطينية بشكل خاص، ثقلاً أكبر على الأجندة الأمنية لدولة الإمارات ومنطقة الخليج العربي، لتتحول إلى أطراف مهمة في إدارة هذا الصراع وتسهيل مسارات تسويته بصورة عادلة.
3. التداعيات على المحاور الاستراتيجية الإقليمية
من المتوقع أن يترتب على هذه المعاهدة تداعيات مهمة فيما يتعلق بالمحاور الاستراتيجية بالإقليم. ويمكن الإشارة هنا إلى نتيجتين مهمتين على هذا المستوى. الأولى، أن المعاهدة سوف تسهم في تقوية ما عُرف تاريخياً بـ"محور الاعتدال" في المنطقة، والذي يضم إضافةً إلى دولة الإمارات كلاً من مصر والمملكة العربية السعودية والأردن، في مواجهة محور آخر راديكالي ضمَّ بالأساس قطر وعدد من الدول غير العربية إلى جانب بعض التنظيمات والفواعل "من دون الدولة". والفرز بين هذين المحورين تم عبر سنوات ممتدة بناء على مواقف أطرافه من عدد من القضايا المهمة في الإقليم، كان من بينها الموقف من الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث ظل هناك خلاف بين الجانبين حول آليات إدارة هذا الصراع؛ فبينما مال محور الاعتدال إلى منح اعتبار أكبر لآليات التفاوض والحوار المباشر، مال المحور المقابل إلى الاعتماد على آليات راديكالية بما فيها التنظيمات العنيفة "من دون الدولة".
وبهذا المعنى، يمكن القول إن التحاق دولة الإمارات بالدول ذات العلاقات "الطبيعية" مع إسرائيل سوف يُسهم في تقوية "محور الاعتدال" بشكل عام، وموقف دول هذا المحور بشأن طريقة إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي بشكل خاص، في مواجهة المحور الراديكالي، خاصة مع التزايد المحتمل لدور دولة الإمارات في مجال إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل.
والثانية، من المتوقع أن تؤدي المعاهدة إلى زيادة فرص التعاون والتنسيق الإماراتي-الإسرائيلي فيما يتعلق بالتهديد الإيراني، سواء لجهة خصوصية هذا التهديد بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام، ولدولة الإمارات بشكل خاص، لا سيما في ضوء احتلال إيران لجزر تابعة للسيادة الإماراتية، أو لجهة الأولوية التي أعطتها إسرائيل للتهديد الإيراني خلال السنوات الأخيرة. والتنسيق الخليجي-الإسرائيلي فيما يتعلق بالتهديد الإيراني سيُسهم أيضاً في تعميق الاعتماد الأمني المتبادل بين منطقة الخليج ومنطقة "المركز"، بالنظر إلى خصوصية هذا "التهديد" بالنسبة للطرفين، الأمر الذي يزيد من مساحة التوافق الأمني الخليجي-الإسرائيلي.
4. تدشين مسارات جديدة للتعاون الاقتصادي والفني الإقليمي
إن معاهدة السلام بين دولة الإمارات وإسرائيل يُمكن أن تؤسس لعلاقات قوية بين الجانبين في مجالات نوعية مثل الاقتصاد والتجارة، والطب والصحة، والتكنولوجيا بشكل عام، وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات بشكل خاص، فضلاً عن التعاون في مجال الموانئ البحرية. ويساعد في ذلك عدد من العوامل، أهمها:
وإضافةً إلى فرص التعاون الثنائي، هناك فرص مهمة للتعاون الثلاثي أو الجماعي بين الإمارات وإسرائيل وأطراف أخرى من خارج العالم العربي، مثل الصين والهند وغيرهما. وتزداد فرص هذا التعاون على خلفية العلاقات القوية لدولة الإمارات مع هذه الدول في المجالات الاقتصادية والفنية، خاصة مجال الطاقة والطاقة المتجددة، حيث يمكن هنا مد التعاون الثنائي ليغطي قائمة واسعة من المجالات، من خلال آلية "المشروعات المشتركة"، سواء على مستوى الاستثمارات أو الأنشطة البحثية.
فُرَص تعزيز المصالح الإماراتية والعربية مع الولايات المتحدة
في الوقت الذي تُحقق معاهدة السلام الإماراتية-الإسرائيلية مصالح متبادلة لطرفيها المباشرين وكذلك للإدارة الأمريكية الحالية، وللقضية الفلسطينية ولأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط وإمكانية فتح آفاق جديدة للتعاون الإقليمي على مسارات مختلفة، فإنها في الوقت نفسه تمنح دولة الإمارات والدول العربية المؤيدة لمسار السلام فرصة لتعزيز مصالحهما داخل الولايات المتحدة، القوة العظمى الأهم في عالم اليوم، وذلك على النحو الآتي:
1. تسريع عمليات حصول الإمارات على أسلحة أمريكية متقدمة. فعادة ما تتطلب عملية شراء أسلحة أمريكية ما بين ست إلى ثماني سنوات، فضلاً عن أنها تتطلب موافقة الكونجرس الأمريكي، ناهيك عن احتمالات أن تتراجع عنها الإدارة الأمريكية المقبلة في حال خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية التي ستجري في 3 نوفمبر المقبل، وعلى الرغم من التزام الولايات المتحدة بالتفوق العسكري النوعي لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط للحفاظ على أمنها، إلا أن هذا الالتزام يتم التراجع عنه إذا كانت الدولة التي ستحصل على أسلحة أمريكية تربطها اتفاقية سلام مع تل أبيب. وفي أعقاب توقيع مصر والأردن على معاهدات سلام مع إسرائيل، تمكنتا من الحصول على أسلحة أمريكية متقدمة، في ظل عدم مُعارضة المشرعين الأمريكيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بمجلسي النواب والشيوخ لصفقات التسلح الأمريكية للدولتين.
2. زيادة الدعم الحزبي لتوطيد العلاقات الأمريكية-الإماراتية. إذ ستزيد الاتفاقية الإماراتية-الإسرائيلية من قوة التحالف بين الولايات المتحدة والإمارات، مما يحدُّ من فرص إحداث تغيير فيه بتغيُّر الإدارات الأمريكية، حيث سيزداد الدعم الأمريكي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لتعزيز وتوطيد العلاقات بين الحليفين، إلى جانب تمييز الإمارات عن غيرها من حلفاء واشنطن الإقليميين الذين أصبحوا هدافاً لانتقادات المشرعين الأمريكيين.
3. لعب الإمارات والقوى العربية دوراً مؤثراً في عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية. فبتعزيز معاهدة السلام التواصل مع إسرائيل على مستويات عدة، ستسمح المعاهدة الجديدة للقوى العربية بزيادة نفوذها داخل الولايات المتحدة للمساعدة في التخفيف من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، والانخراط مباشرة في عملية السلام بدلاً من الاكتفاء بدور هامشي في عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية.
4. مراعاة المصالح واعتبارات الأمن القومي في حال نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لا سيما مع توقعات بتولي مسؤولين سابقين بإدارة باراك أوباما ومن تفاوضوا مع إيران على الاتفاق النووي السابق مناصب عليا بالإدارة الأمريكية الجديدة، وتصاعد المؤشرات على عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي السابق الذي تشترك إسرائيل والدول الخليجية والعربية في اعتباره ضعيفاً وغير فعَّال، حيث إن الاتفاقية الإماراتية-الإسرائيلية ستدفع الإدارة الأمريكية الجديدة إلى أن تأخذ في الاعتبار بشكل أفضل مصالح الحلفاء الأمريكيين في المنطقة.
خلاصة واستنتاجات
محمد فايز فرحات | 14 يناير 2021
أحمد نظيف | 14 يناير 2021
مركز الإمارات للسياسات | 12 يناير 2021