دخل قانون العقوبات الأمريكي ضد النظام السوري، المسمى "قانون حماية المدنيين في سوريا" الذي يُعرف اختصاراً باسم "قانون قيصر"، حيز التنفيذ في 17 يونيو 2020. ويستهدف القانون قطاعات عدة في الاقتصاد السوري، كما يعاقب وكيانات وشركات وشخصيات، إقليمية ودولية، تقدم دعماً عسكرياً واقتصادياً للنظام السوري. ويقدّر أن يكون للقانون أثرٌ كبير، اقتصادياً وسياسياً، من شأنه تغيير التوازنات بين الفاعلين في الملف السوري، وإيجاد ديناميات جديدة قد تؤثر في مخرجات الحل السياسي الموعود.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على طبيعة هذا القانون، وأهدافه، وتداعياته الاقتصادية والسياسية.
ماهيّة قانون "قيصر"
تعود تسمية القانون إلى ضابط سوري انشق عن النظام السوري وسرّب قرابة 55 ألف صورة لنحو 11 ألف معتقل قتلوا تحت التعذيب في السجون السورية، وتأكد مكتب التحقيق الفيدرالي من صحّتها. وأقر الكونغرس بمجلسيه القانون، وأُدرج ضمن قانون ميزانية الدفاع لعام 2020، ووقّع عليه الرئيس دونالد ترمب في 20 ديسمبر 2019.
1. مراحل تطبيق القانون
يمر تطبيق قانون قيصر بأكثر من مرحلة، حيث سيجري تحديث قوائم العقوبات وإضافة كيانات وشخصيات جديدة، سواء من قبل لجنة مختصة بمراقبة ومتابعة التزام الدول والشركات والأفراد، أو من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المكلّف، بعد 180 يوماً من بدء سريان القانون، بتقرير ما إذا كان المصرف المركزي السوري يشكل أداةً لغسل الأموال.
بدأت المرحلة الأولى في 17 يونيو، وفيها فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على 39 كياناً وشخصية مرتبطين بالنظام السوري. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان لها صادر في اليوم نفسه، إن العقوبات تشمل "مهندسي المعاناة"، بشار الأسد وزوجته أسماء، ومؤسِّسي "الأعمال الوحشية"، محمد حمشو ولواء "فاطميون" الميليشياوي الإيراني، إضافة إلى ماهر الأسد وفرقته الرابعة في قوات النظام، وقائديه غسان علي بلال وسامر الدانا. وتشمل العقوبات أيضاً، بشرى الأسد شقيقة بشار الأسد، ومنال الأسد زوجة ماهر الأسد، وأحمد صابر حمشو وعمر حمشو وعلي حمشو ورانيا الدباس وسمية حمشو.
ويبدأ تنفيذ المرحلة الثانية بين شهري يوليو وأغسطس المقبلين. وفي هذه المرحلة سيتم فرض عقوبات على المتعاونين مع النظام السوري، عسكرياً ومالياً واقتصادياً، كمجموعة فاغنر الروسية مثلاً، والميليشيات التابعة لإيران، وكيانات حزبية وأفراد، كما سيتم فرض عقوبات على المخالفين للقرار من دول الجوار، شركات وشخصيات. وستشمل العقوبات كل من قدَّم دعماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً للنظام السوري منذ 19 ديسمبر 2019، تاريخ توقيع القانون.
2. القطاعات التي يستهدفها القانون
تستهدف العقوبات في "قانون قيصر" الكيانات التي تعمل لصالح نظام الأسد في أربعة قطاعات، هي: النفط والغاز الطبيعي، والطائرات العسكرية، والبناء والهندسة، والبضائع والخدمات والتكنولوجيا. ويشمل ذلك الدعم المباشر وغير المباشر للنظام، مثل دعم الميليشيات المدعومة من إيران وروسيا، العاملة في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب القانون من إدارة ترمب تحديد ما إذا كان المصرف المركزي السوري كياناً من النوع الذي يشكل "مصدرَ قلق رئيس بشأن غسل الأموال" عملاً بالمادة 311 من القانون الوطني الأمريكي.
ويمكن تحديد المجالات الأساسية التي ستكون تحت تهديد العقوبات بثلاثة، هي:
3. الجهات المهدّدة بالعقوبات
4. أهداف القانون
5. شروط وقف العقوبات
حدّد القانون مدّة استمرار العقوبات بخمس سنوات، لكن القانون منح الرئيس الأمريكي سلطة رفع العقوبات شريطة تحقيق مجموعة من المطالب:
لا يستطيع النظام السوري تطبيق هذه الشروط، وخاصة الشرط المتعلق بمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب، لأن هذه التهمة تطال كل أركان النظام، من بشار الأسد وشقيقه ماهر إلى جميع رؤساء الأجهزة الأمنية والفرق العسكرية؛ ما يعني أن يقوم النظام بتحطيم بنيته بيده.
التداعيات المحتملة لقانون قيصر
يهدّد تطبيق قانون "قيصر"، كما هو مرسوم، بإحداث تداعيات عديدة على كافة مستويات الحياة في سوريا، نذكر منها:
1. انهيار الاقتصاد
يُتوقع أن يساهم القانون في انهيار الليرة السورية بشكل كبير، في ظل تعطُّل جميع مصادر الإنتاج، وعدم توافر مصادر للدخل، وانكفاء الحلفاء، وتحديداً إيران التي كان النظام يعتمد عليها في ضخ العملات الصعبة في سوريا، نتيجة ظروفها الاقتصادية المتردية. كما أن قطاع الطاقة الذي يُعد المستهدف الأول بالعقوبات يرتبط بعدد كبير من القطاعات الإنتاجية التي ستتعطل بالتبعية، وتزيد من حدّة التدهور الاقتصادي. وكانت الليرة السورية قد فقدت نحو 70 في المئة من قيمتها منذ شهر أبريل الفائت، فقد كان سعرها أواسط الشهر الماضي نحو 1600 ليرة سورية مقابل الدولار، وتراجعت إلى حدود 3000 ليرة قبيل أيام من صدور القانون. ومع أنه يقف خلف هذا التراجع عوامل عدّة، أهمها أزمة المصارف اللبنانية التي قيدت حجم السحب من القطع الأجنبي لزبائنها، ومنهم السوريون؛ والصراع داخل النظام السوري بين بشار الأسد ورامي مخلوف الذي جعل عدداً من رجال الأعمال يهرّبون أموالهم إلى الخارج، إلا أن بدء تطبيق قانون قيصر سيؤدي إلى مزيد من الانهيار في العملة السورية، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى تراجع القدرة الشرائية للسوريين بشكل كبير.
2. تعطُّل وظائف النظام
ستؤدي العقوبات إلى تخفيض الدخل الوطني إلى أدنى الحدود، وهذا يعني إفلاس النظام وعدم قدرته على القيام بوظائفه، حيث ستتهدّد قدرته على دفع مرتّبات لكتلة موظفيه من المدنيين والعسكريين، وسيكون لهذا الأمر انعكاسات خطيرة على مستويات عدة:
الرابحون والخاسرون من القانون
يُتوقع أن يكون لقانون قيصر تأثيرٌ كبير في موازين القوى بالنسبة للفاعلين في المشهد السياسي السوري؛ فالقانون يؤسس لنمط جديد من معادلات القوّة تقوم بدرجة كبيرة على الفعالية الاقتصادية للاعبين، ويُضعف بدرجة كبيرة نمط الصراع العسكري الذي رجحت خلاله كفة نظام الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون، وتفرز هذه المعادلة رابحين وخاسرين.
1. الرابحون
2. الخاسرون
الانعكاسات المحتملة على الوضع الميداني
من غير المرجح حصول تغييرات مهمة في الوضع الميداني العسكري في المدى القريب، حيث سيتركز اهتمام الأطراف، وخاصة روسيا وإيران ونظام الأسد، على البحث عن وسائل اقتصادية وسياسية للتخفيف من حدّة العقوبات على النظام السوري ومنعه من الانهيار، وخاصة أن التفسيرات الأمريكية للقانون تشدّد على منع النظام وحلفائه من استخدام قوتهم العسكرية لتغيير الأوضاع في سوريا وخاصة في إدلب، ما يعني أن القانون يضع خطوطاً حمراً على أي تحرك بهذا الاتجاه.
ورغم ارتفاع حدّة التوتر في إدلب، وخاصة في منطقة جبل الزاوية التي تشرف على الطريق الدولي M4، ورغم التوتر الحاصل بين روسيا وتركيا في الساحة الليبية، والذي عكسه تأجيل زيارة كلٍّ من وزيرَي الخارجية والدفاع الروسيَّين إلى تركيا لإجراء مباحثات حول الأوضاع في سوريا وليبيا، إلا أن روسيا ستكون حذرة في هذه المرحلة من اتخاذ خطوات تصعيدية في سوريا قبل استكشاف طبيعة التوجهات الأمريكية ما بعد سريان تطبيق "قيصر".
بيد أن ذلك لن يمنع السياسة الروسية، التي قامت على مزيج من استخدام الدبلوماسية والضربات العسكرية، من التفكير بتحريك الأوضاع، وتحديداً في إدلب، التي تعتبر أسهل من مناطق شرق الفرات، وذلك لتحقيق هدف مزدوج: فحص ردة الفعل الأمريكية في هذه المرحلة، وتذكير تركيا بحجم قوتها بعد محاولتها تجاوز الخطوط الروسية الحمر في ليبيا.
وبناءً على ذلك يرجح في المرحلة المقبلة حصول واحد أو أكثر من هذه السيناريوهات:
السيناريو الأول: لجوء روسيا إلى التفاهمات والمساومات مع الأطراف الداخلية والخارجية للحفاظ على مصالحها الجيوسياسية في سوريا، وستسعى روسيا إلى تنشيط القنوات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، إذ أكد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، مؤخراً، أنّ روسيا "مستعدة للانخراط فوراً بحوار موسع مع الولايات المتحدة حول كل الملفات التي تخص الوضع في سوريا". وفي خط مُوازٍ تعمل روسيا على إعادة إحياء مسار أستانة وتقريب وجهات النظر التركية والإيرانية، والضغط على نظام الأسد من أجل استئناف مفاوضات اللجنة الدستورية (وهنا يأتي التصريح الأخير للمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسن، الذي أعرب عن أمله بعقد اللجنة الدستورية السورية جلستها الثالثة في أغسطس المقبل)، والانخراط بشكل جدي في مسار التسوية وتجميد القتال في إدلب، والحفاظ على الموارد لدعم الاقتصاد في المرحلة المقبلة؛ وذلك بهدف وقف حدّة انحدار الاقتصاد السوري والحفاظ على النظام السياسي في المرحلة المقبلة.
هذا السيناريو الأكثر ترجيحاً، حيث يتطابق مع رغبات روسيا في تحقيق نتائج إيجابية لتدخلها العسكري في سوريا، وتجنب الغرق في مستنقع يستنزف قدراتها الاقتصادية والعسكرية.
السيناريو الثاني: استخدام القوّة العسكرية المباشرة في إدلب، أو من خلال وكلاء في مناطق شرق الفرات. وشرط تطبيق هذا السيناريو فشل تحركات روسيا الدبلوماسية وإغلاق الولايات المتحدة الباب نهائياً في وجه المساعي الروسية، ما لم يتم تطبيق الشروط التي حددتها لتخفيف العقوبات. في هذه الحال ستجد روسيا نفسها مضطرة للجوء إلى استراتيجية "حرب التحريك"، حتى لا يُصار إلى وضعها في مأزق اقتصادي وعسكري يستنزفها. وهذا السيناريو لن يتم اللجوء له قبل استنفاد كل الوسائل الدبلوماسية.
السيناريو الثالث: ترك الأمور على حالها، في حال كانت طريق الدبلوماسية وعرة وغير مجدية، وطريق الحرب مكلّفة وغير عقلانية. وفي هذه الحالة ستلجأ روسيا إلى الرهان على الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل، واحتمال مجيء إدارة ديمقراطية لا تهتم كثيراً بالشأن السوري (كإدارة أوباما الديمقراطية)، أو أن تتغير أولويات إدارة ترمب في عهدها الثاني.
مركز الإمارات للسياسات | 24 يناير 2021
بلال عبد الله | 21 يناير 2021
عمرو هاشم ربيع | 20 يناير 2021