في كلّ مَرَّة تجتمع المؤسسات الأوروبية لتتخذ قراراً بشأن العقوبات ضد تركيا يَنفَضُّ الاجتماع دون الخروج بقرار واضح، لكن القاسم المشترك لكل الاجتماعات المتعلقة بأنقرة هو الانقسام الواضح بين الحكومات الأوروبية بشأن التعاطي مع السياسات التركية، والذي تجلَّى في أكثر من مناسبة بين جبهتين: جبهة تُطالب بالصرامة تجاه تركيا، في مقابل جبهة تُطالب بالمرونة. ولكلّ طرفٍ من أطراف الانقسام دوافعه وأسبابه، فيما تحاول أنقرة الاستفادة من هوامش الخلاف الداخلي لكسب الوقت استباقاً لأي عقوبات أوروبية يمكن أن تستهدفها.
تتناول هذه الورقة أسباب الانقسامات في الاتحاد الأوروبي حول الموقف من السياسات التركية، ودلالات ذلك وتداعياته على العلاقات الأوروبية-التركية، والمسارات المحتملة للعقوبات الأوروبية ضد أنقرة.
مؤشرات الانقسام وأطرافه
في 11 ديسمبر 2020 اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وكان مستقبل علاقات الاتحاد الأوروبي مع تركيا، على رأس جدول أعمال القمة، فيما كانت العلاقات بين الطرفين تمر بأسوأ فتراتها، إذ بلغت الحرب الكلامية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون حد تبادل الشتائم، كما شكلت قضية التنقيب على الغاز شرق المتوسط أكبر التحديات التي تواجهها علاقات الأطراف. وقبل القمة رشحت أخبار[1] عن حزمة عقوبات أوروبية يمكن أن يُقرِّها القادة في اجتماعهم يمكن أن تطال التعاون الاقتصادي مع تركيا، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بعد أن قررت القمة ترحيل مسألة العقوبات إلى شهر مارس 2021.[2] بيد أن النتيجة التي كشفت عنها القمة الأوروبية بوضوح هي عدم انسجام في الرؤى وتباين في المواقف بين دول الاتحاد بشأن الموقف من تركيا.
وفي 16 فبراير 2021 اجتمع وزراء المال في الاتحاد الأوروبي لمناقشة وتعديل اللائحة الأوروبية السوداء للملاذات الضريبية، وانتهى الاجتماع بتوجيه إنذار إلى أنقرة لتحترم التزاماتها لناحية التهرّب الضريبي بحلول يونيو 2021،[3] مع أن الاتحاد كان قد منح تركيا مهلة عام كامل للوفاء بالتزاماتها منذ فبراير 2020 حيث وُضعت على القائمة الرمادية، وقبل ذلك مُنِحَت أنقرة مهلة إضافية منذ أكتوبر 2019، لكنها بقيت مُمتنعةً عن تنفيذ التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية مع الدول الأوروبية، المتعلقة بملايين الأتراك الذين يقيمون في أوروبا[4]، ويتمتع قطاع واسع منهم بالمساعدات الاجتماعية دون التصريح بوضعهم الضريبي داخل تركيا، الأمر الذي تعتبره المؤسسات المالية للاتحاد نوعاً من الملاذ الضريبي توفره أنقرة من أجل كسب عوائد تحويل الأصول نحو الداخل التركي[5].
لكن اللافت في اجتماع وزراء المال الأوروبيين، والنقاش حول العلاقة مع تركيا، هو الانقسام الواضح في وجهات النظر، إذ انتهجت مجموعة من الدول خطاباً متشدداً تجاه أنقرة مُطالبة بفرض على الأقل شروط صارمة مع مواعيد محددة، لإعطاء مهلة جديدة وأخيرة لتركيا كي تحترم خلالها تعهداتها، وفي المقابل رفضت مجموعة أخرى من الدول، بشكل قاطع إدراج أنقرة على اللائحة السوداء في هذه المرحلة، وأعربت عن رغبتها في استخدام لهجة أقلّ تشدداً[6]. وهذا الانقسام جاء في صالح تركيا، حيث أدى إلى عدم الخروج بقرار نهائي، وترحيل المسألة إلى جولة أخرى من الاجتماعات في شهر أكتوبر المقبل، موعد تحديث هذه قوائم الملاذات الضريبية، والذي يحصل مرتين في العام، لتحظى أنقرة بمزيد من الوقت.
وهذا الانقسام الأوروبي تجاه العقوبات ضد تركيا، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، يبدو امتداداً للانقسام الأوروبي التاريخي بشأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، خاصة لجهة أطراف الانقسام، إذ تبدو الخارطة الثنائية المتقابلة كالآتي:
أسباب الانقسام ودلالاته
1. الأسباب
ينطلق كل طرفٍ من أطراف الانقسام الأوروبي في موقفه تجاه السياسات التركية من مصالحه القُطْريَّة الوطنية، لتشكل كل مجموعة من الدولة تحالف مصالح داخل المؤسسات القيادية للاتحاد. ويُمكن حصر أسباب ودوافع كل طرف في هذا الانقسام، في الآتي:
2. الدلالات
يَنضَاف هذا الانقسام الأوروبي حول الموقف من تركيا إلى سلسلة طويلة من الانقسامات الأوروبية حول العديد من المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث عجزت الدول الأوروبية على توحيد سياساتها في مواجهة وباء كورونا، وعجزت لاحقاً على الخروج بموقف موحد حول الخطة المالية المشتركة لمواجهات التداعيات الاقتصادية للأزمة الصحية، كما حدث خلال مواجهة أزمـة الـدیـون السـیادیـة فـي مـنطقة الـیورو التـي بـدأت عـام 2010 فـي أعقاب أزمـة 2008 الـمالـیة. وقبل ذلك كانت الانقسامات قد أثرت على وحدة الاتحاد خلال أزمة اللاجئين في العام 2015، لذلك فإن الدلالة الأبرز لهذا الانقسام حول الموقف من السياسات التركية؛ العسكرية في المتوسط، والسياسية في قضايا شبكات التأثير، هي ضَعْف السياسات الوحدوية الأوروبية مقابل صعود النزعات القطرية والوطنية الضيقة[17]، إذ تبرز المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الوطنية أكثر قوة وتأثيراً على قرارات الدول الأوروبية من المصالح الأوروبية الجامعة، ويبدو أن ذلك يعود إلى تأثيرات الاختلال المالي والاقتصادي بين دول الاتحاد، إذ شكلت هذه الاختلالات على الدوام الجذور الحقيقية لضعف الروابط السياسية داخل الاتحاد وتعزُّز الانسحابات القومية. فالوحدة الأوروبية التي كان يُنظر إليها على أنها مساحة للسلام والازدهار، أصبحت بشكل متزايد منطقة بسيطة للتبادلات الاقتصادية فحسب، حيثُ تطبع "الأنانية الوطنية" سلوك الحكومات[18].
المسارات المحتملة للانقسام الأوروبي وتأثيره على العقوبات
يبدو كل طرف من طرفي الانقسام الأوروبي تجاه تركيا مُتَمترِس خلف مصالحه الوطنية، لكن حالة ''العطالة'' التي طبعت الاجتماعات الأوروبية الأخيرة في علاقة بالموقف من السياسات التركية ضد الاتحاد الأوروبي ستدفع فرقاء الاتحاد للخروج أخيراً بموقف واضح وموحد، وهو ما سيؤثر قطعاً على تركيا، فيما تبدو المسارات المحتملة لتطور الوضع تسير نحو المسارين التاليين:
لكن الأرجح أن تتجه أنقرة نحو محاولة ترميم العلاقات مع الجار الأوروبي خلال الأشهر المقبلة، وهو ما يُرجِّح كفة جبهة المرونة في الاتحاد على المدى القريب، إذ رَشَحَت منذ بداية العام الجاري بوادر تهدئة من الرئيس التركي، الذي استغل لقاءً مع سفراء الاتحاد للإشادة بخطط استئناف المحادثات مع اليونان، وقال إنه يريد وضع "أجندة إيجابية" في علاقات تركيا مع بروكسل. فأردوغان وإدارته لا يريدان تعميق الخلاف مع أوروبا في أعقاب صعود جو بايدن إلى البيت الأبيض، والذي عيَّن منذ أيامه الأولى في السلطة بريت ماكغورك مُنسقاً للشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن فريقه بمجلس الأمن القومي، وقد اعتبرت وكالة الأناضول الرسمية التركية ذلك ''رسالة سلبية من بايدن تجاهها"[22].
خلاصات واستنتاجات
الهوامش
[1] JACOPO BARIGAZZI, EU leaders to line up new sanctions on Turkey at summit, Politico, December 9, 2020. https://politi.co/3k7M3Pm
[2] Valentin Deleforterie, Sommet UE: accord pour sanctionner la Turquie, RTL France, 11/12/2020. https://bit.ly/3k1fyCd
[3] Paradis fiscaux: l’Europe accorde un nouveau sursis à la Turquie, Le Monde, 16 février 2021. https://bit.ly/3pAVYhb
[4] Transparence fiscale: que cache Ankara à ces six pays européens, dont la France?, Sputnik news (FR), 11.02.2020. https://sptnkne.ws/BtTe
[5] خففت أنقرة عن قصد إطارها فيما يتعلق بالشفافية المالية في السنوات الأخيرة، وبذلت محاولات متكررة لإعادة الأصول ورفع القيود عن تحويلات رأس المال إلى الداخل في إطار خطة الإنقاذ المالي لمساعدة اقتصادها الذي يعاني من ظروف مالية صعبة خلال فترة الركود الاقتصادي الحاد والمستمر. وقد يُعزَى إحجام تركيا عن التنفيذ الكامل للتبادل التلقائي للمعلومات جزئياً إلى هذا الهدف، إذ أصبح بإمكان الأتراك الذين يقيمون في الدول الأوروبية الحصول على حصانة من تحقيقات التخلف عن سداد الأعباء الضريبية عن طريق دفع ضريبة بنسبة 1 في المئة على الأصول الأجنبية المعادة. انظر: حسين صفا كافدار أوغلو، "أردوغان يدخل تركيا القائمة السوداء للملاذات الضريبية"، العرب الدولية، 21 فبراير 202. https://bit.ly/3um7kJw
[6] Liste noire des paradis fiscaux. L’Union européenne laisse une dernière chance à la Turquie, Ouest-France avec AFP, 16/02/2021. https://bit.ly/3rWYEYi
[7] Stoltenberg: "La Turquie fait partie de la famille de l'OTAN et de l'Occident", Agence Anadolu, 10.12.2020. https://bit.ly/2OEfsEX
[8] "كشف مخطّط للمخابرات التركية لاغتيال سياسية كردية نمساوية"، صحيفة أحوال تركية، 24/09/2020، https://bit.ly/37JpQRK
[9] "Geheime ‘Turkije analyse’ NCTV lekt uit: grote rol Erdogan bij opkomst salafisme in Nederland", HP/DE TIJD, 15/02/2021. https://bit.ly/3pFjfyV
[10] أحمد نظيف، "الاختراق التركي للاتحاد الأوروبي: مظاهره وأهدافه والسياسات المضادة"، مركز الإمارات للسياسات، 14 يناير 2021. https://bit.ly/3k1v5lv
[11] Emmanuel Macron: « Entre la France et l’Afrique, ce doit être une histoire d’amour », Jeune Afrique, 20 novembre 2020. https://bit.ly/3qKhbqJ
[12] Union Européenne: Pourquoi l’Allemagne bloque les demandes de sanctions françaises contre la Turquie, Marianne, 02/11/2020. https://bit.ly/2OQ7V6c
[13] Tensions en Méditerranée. Pourquoi l’Allemagne cherche à ne pas faire de vagues avec la Turquie?, Ouest-France, 09/09/2020. https://bit.ly/3qy3pqW
[14] Hungary-Turkey ties have greater trade, investment potential, Daily Sabah, FEB 08, 2021. https://bit.ly/3pwsoJV
[15] Sinan Ekim and Nicola Bilotta, Italian-Turkish Economic Relations: An Overview, Istituto Affari Internazionali (IAI), 18/09/2020. https://bit.ly/3uaqceE
[16] Spain's BBVA tops list of foreign banks exposed to Turkey -ABN AMRO, Reuters, JULY 16, 2018. https://reut.rs/3bbXUru
[17] Jean-Louis Bourlanges, L’Europe entre crises et rebonds, Vie Publique, 14 octobre 2019. https://bit.ly/3bwT4FB
[18] Denis Jeambar, l'Union européenne menacée de désarticulation – Challenges, 27.04.2020. https://bit.ly/37qAs8I
[19] "كيف دفع أردوغان بلاده بسرعة إلى دوامة العقوبات؟"، سكاي نيوز عربية، 6 نوفمبر 2020. https://bit.ly/37rnTde
[20] Athènes demande à l'UE d'examiner la suspension de l'union douanière avec Ankara, Le Figaro, 20/10/2020. https://bit.ly/3scYNHh
[21] "تركيا تبدأ بترحيل مقاتلي داعش الأجانب الاثنين المقبل"، دويتشه فيله عربية، 8 نوفمبر 2019. https://bit.ly/3k2Ojat
[22] "تعيين "بريت ماكغورك" رسالة بايدن السلبية تجاه الشرق الأوسط"، وكالة الأناضول، 12 يناير 2021. https://bit.ly/3ax18GL
أحمد فؤاد | 14 أبريل 2021
مركز الإمارات للسياسات | 11 أبريل 2021
أحمد دياب | 04 أبريل 2021