عاد السجال من جديد حول الوجود العسكري الأميركي في العراق إثر غارة جوية خاطئة نفّذتها مروحيات أميركية في بلدة البغدادي في محافظة الأنبار في 27 يناير 2018، أدت إلى مقتل نحو 20 من القوات العراقية، فقد فتحت الحادثة نقاشات داخلية حول مستقبل الوجود الأميركي والقواعد العسكرية في مرحلة ما بعد "داعش". وكانت الفصائل الشيعية العراقية المُوالية لإيران في مقدمة المعترضين على الوجود الأميركي، وحاولت إحراج الحكومة العراقية عبر طرح هذه القضية للنقاش في مجلس النواب، كما أنها أطلقت تهديدات صريحة باستهداف قوات الأميركية في العراق، واصفةً إياها بأنها "قوات احتلال".
تتناول هذه الورقة طبيعة الوجود الأمريكي في العراق، وأهدافه، والعوامل الداعمة له، ومستقبله.
أولاً: طبيعة الوجود الأمريكي في العراق
بشكل عام لا يمكن الحديث عن وجود قواعد عسكرية أميركية في العراق بالمعنى المتعارف عليه، بل معسكرات داخل قواعد لقوات الأمن العراقية، ويُستثنى من ذلك قاعدة "عين الأسد" الاستراتيجية في محافظة الأنبار.
ثانياً: أهداف الوجود الأمريكي في العراق
في 17 يناير 2018 أعلن وزيرُ الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون صراحةً، في خطاب رئيسي حول السياسة الأميركية تجاه سوريا، بمؤسسة هوفر في جامعة ستانفورد، أن مواجهة إيران، وضمان تسوية سلمية تستبعد الرئيس بشار الأسد، من بين أهداف استمرار الوجود الأميركي في سوريا، والبالغ نحو 2000 عنصر أميركي ينتشرون حالياً في زاوية يسيطر عليها الأكراد في شمال شرق سوريا. وبالطبع، لن يكون تحقيق هذه الاستراتيجية ناجعاً دون وجود أميركي مُوازٍ في العراق، ويمكن ملاحظة أن غالبية القوات والقواعد الأميركية المنتشرة في العراق تقع قرب الحدود العراقية مع سوريا، مستفيدةً من الغالبية السنية التي تقطن هذه المناطق.
إن أحد أهم الإنجازات التي حققتها القوات الأميركية، إلى جانب القضاء على "داعش"، هو نجاحها في فرض حصار على الطريق البري العابر من العراق إلى سوريا؛ ففي الجانب العراقي كانت حظوة الولايات المتحدة أكبر في محافظة الأنبار بسبب وجود قاعدة "عين الأسد"، بينما في الجانب السوري المقابل للأنبار وتحديداً عند بلدتي دير الزور والبوكمال، يسيطر النظام السوري والفصائل الشيعية العراقية واللبنانية. ولإكمال الحصار على طول الحدود كان من الصعب أن تقوم الولايات المتحدة بنشر قواعدها في شمال العراق عند بلدات غرب الموصل المحاذية للحدود السورية في تلعفر وسنجار، بسبب انتشار فصائل شيعية مُوالية لإيران، ولكنها عززت وجودها في الطرف المقابل لهذه المناطق في شمال سوريا عبر "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد).
في 15 يناير 2018 أعلنت "كتائب حزب الله" العراقية الموجودة في سوريا في بيان رسمي على موقعها الإلكتروني أن "فصائل المقاومة والجيش السوري يستعدان لعملية مشتركة للسيطرة على الحدود المشتركة بين البلدين لمنع الوجود الأميركي". وقال المتحدث العسكري باسم الكتائب جعفر الحسيني في حوار مع التلفزيون السوري الرسمي في الفترة نفسها إن "فصائل المقاومة تحاول منع الوجود العسكري الأميركي على الحدود"، مشيراً إلى أن "الأميركيين نزلوا على الحدود العراقية السورية في محاولة لعزل العراق وسوريا، لكننا سنمنع وجودهم".
وطبقاً لما سبق، يمكن تلخيص أهداف الوجود الأميركي في العراق وسوريا بالآتي:
ثالثاً: العوامل الداعمة لاستمرار الوجود الأميركي في العراق
لا شك في أن الوجود الأميركي في العراق سيكون حاضراً في نقاشات القوى السياسية العراقية خلال الأشهر القليلة المقبلة، وسيكون أبرز التحديات المطروحة على جدول أعمال الحكومة العراقية الجديدة بعد الانتخابات التشريعية المقرر تنظيمها في مايو المقبل. وبانتظار ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات؛ فمع أن قرار الفصائل الشيعية الموالية لإيران بالمشاركة ضمن تحالف انتخابي (تحالف الفتح المبين) بزعامة هادي العامري كقوة أساسية تزاحم الأحزاب الشيعية التقليدية على نيل مقاعد البرلمان، لن يغير العدد الكلي لمقاعد الشيعة في كل انتخابات، والذي يقدر بنحو نصف مقاعد مجلس النواب، إلا أن هذا المتغير الجديد قد يؤثّر في توزيع هذه المقاعد على القوى الشيعية، بشقيها التقليدية والجديدة؛ الأمر الذي سيسهم في تحديد طبيعة النقاش بشأن مستقبل الوجود الأميركي في العراق.
والواقع، أن عوامل أمنية وقانونية واجتماعية تدعم استمرار الوجود الأميركي في العراق، كالآتي:
رابعاً: مستقبل الوجود الأميركي في العراق
رغم تكتم الولايات المتحدة والحكومة العراقية على مستقبل الوجود الأميركي في العراق، خشية إثارة حفيظة تيار شيعي واسع، إلا أن الواقع يشير إلى بقاء أميركي طويل الأمد، وبخاصة أن الولايات المتحدة لن تكرر الخطأ الذي ارتكبته عام 2011، حين قامت بانسحاب متسرع من العراق، أدى إلى عودة الجماعات الإرهابية. إلا أن الإدارة الأمريكية ستحرص على ألا يثير الوجود الأمريكي حساسية، وذلك بأن يكون تحت عناوين تدريب وتأهيل القوات العراقية، وعليه من المرجح أن تبقى القوات الأميركية في العراق حتى سنوات ثلاث مقبلة على أقل تقدير، مع عمل تقليص فيها، من خلال سحب جزئي لهذه القوات.
وهذا ما تبدى مع بداية عام 2018، فقد أكد ناطق باسم الحكومة العراقية لوكالة "أسوشييتد برس" أن انسحاباً للقوات الأميركية بدأ، وأنه لا يمثل انسحاباً كاملاً للقوات الأميركية. ونقلت الوكالة أن مئات من الجنود الأميركيين غادروا قاعدة "عين الأسد" متجهين بأسلحتهم إلى أفغانستان. في حين نقلت صحيفة "الحياة" عن مسؤول عراقي بارز قريب من رئيس الحكومة حيدر العبادي تأكيده أن 60% من الجنود الأميركيين الموجودين في البلاد سيغادرونها وفق الاتفاق الأوّلي بين الحكومة والولايات المتحدة، والذي ينص على الإبقاء على 4 آلاف جندي فقط لتدريب الجيش العراقي.
وقد يؤدي نجاح الفريق الشيعي المتشدد القريب من إيران في البرلمان المقبل إلى طرح قضية الوجود الأمريكي، والضغط على الحكومة الجديدة، لكن الإصرار على انسحاب أميركي كامل سيفرض على إيران في المقابل القبول بتفكيك الفصائل الشيعية، وانسحاب مقاتليها المنتشرين في المدن السنية ومناطق النزاع العربي-الكردي-التركماني. وهذا الاحتمال قد يكون مرجحاً في المديين المتوسط أو البعيد.
مركز الإمارات للسياسات | 11 يناير 2021
مركز الإمارات للسياسات | 22 يونيو 2020
مركز الإمارات للسياسات | 05 أبريل 2020